آل الصلحي بشجرة نسبهم المتفرعة، والمخضرة دائما، مصلحون اجتماعيون في دروب الموقف الوطني، والفقه، والفن، والثقافة، والفلك، والمسرح، والتعليم، والغناء، ومجالات الخدمة المدنية بما لا يقاس. ومن أي ناحية أتيت إلى هذا البيت الأمدرماني العتيق وجدت فيه ركنا للإبداع المشبع برائحة الوطن المزيج. هذه الأسرة أضافت لبلادنا أدبا راقيا في المساهمة الوطنية. فبخلاف جدهم الكبير حمد حامد جبر الله الذي كان يطعم جنود المهدي، كان أبنه شيخ محمد صلحي يوقد ناراً للعلم في بواكير القرن الماضي، فجعل من العباسية منارة للفقه، وطلب العلم الديني، والشرافة، يحج إليها طلاب المعرفة في ذلك العصر الباكر. ثم جاء الأبناء إبراهيم، وعربي، وسعدية، وآخرون، ليخلقوا التميز في المساهمة الإبداعية المميزة. فالأستاذ الكبير إبراهيم الذي عرض في متاحف عالمية في لندن، وباريس، ونيويورك، وغيرها، وصار فنانا عالميا غطى بظله مجايليه، وإخوانه، وإخوته، وأقاربه المبدعون حتى. فالموسيقار، والتربوي، عربي يعد من المجددين الملهمين في دوحة الغناء، أما الراحلة حديثا السعدية فقد كانت ريحانة أمدرمان التي تمثلتها ثقافةً، وعراقةً، وتسامحاً. -٢- كنت من المحظوظين حين سافرت معها للدامر، وبورتسودان، في محفلين ثقافيين في عامي 1990 و1991. ولأن صحبة الناس بالقطار الذي يسير ببطء تجمعك بالناس من خلال معرفة عن قرب، أدركتها متميزة في طلاوة حديثها، وردائها الأخاذ، ومودتها الغامرة. كنت جاورتها في الكمرة في زيارتنا للدامر فأحسست من الوهلة الأولى أنني إزاء إنسانة نادرة، والذوق يكلل محياها، ورقتها . تحس بها أول مرة أختاً، ثم أماً وبين المنزلتين تجدها تقتبس من مَحنة الحبوبات لتحفك بنوع من الألفة نادرة في زماننا هذا. وبحكم قرب السكنى كان منزل الأسرة يمثل لنا بيتاً للسودان فتجد فيه الكرم بالطعام الجميل الذي تحسنه سعدية، والمدنية الغامرة التي تحفك بها. وحين يعود الصلحي من بريطانيا، أو الدوحة في زياراته للبلد تجدنا أول الواصلين إلى المنزل فتكون الجمعة في العباسية مليئة بالجلسات الممتدة طول اليوم. فهناك تجد تلاميذه عابدين الشوافعة، وإبراهيم العوام، وأحمد الطيب زين العابدين، وحسن الهادي، وأحمد عبد العال، ومحمد عبدالله عتيبي، وبابكر الصديق، وأكابر أهل فن التشكيل يتحومون حول شيخهم. ولما ينشغلوا بحكاياته المليحة وجدت سعدية تخدمهم حافيةً بعصير الكركدي، وبقية مشروباتها من العرديب والتبلدي، بعد أن يكون قد احتسوا وجبة دسمة من أشغال طعامها السوداني الشهي في ذلك اليوم. -2- الفنانة الراحلة سعدية الصلحي درست في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، وتابعت دراستها في مجال التصميم، والديكور، والتلوين، في القاهرة. وتعد الراحلة آخر عنقود الخبراء المتميزين في مجال معرفة الفلكلور السوداني، بما فيه من خزف وازياء، وزينة، ومعدات موسيقية محلية، ومستلزمات الطقوس الاجتماعية من أعراس وطهور، ورداء، وأنماط غذاء. ولعلها كانت أكثر معرفةً بالثقافة المادية لأهل السودان. فهي تحدثك في كل هذه المجالات حديث العالمة التى قضت كل عمرها تنقب، وتجمع، وتصنف، هذا التراث الذي يعود أصله إلى الحقب الضاربة في عمق التاريخ السوداني. وبجانب عملها الممتد في وزارة الثقافة والإعلام كرائدة، وخبيرة متفردة في المجال فقد اقتنت بمالها مجاميع من هذه الاناتيك، والملبوسات القديمة، وطرزت بعضها وحدثته، بشكل بديع حتى لا يضيع وسط الإهمال. وكانت سعدية تتنقل بمعارضها في مناحي السودان فتنصب خيمتها في الدامر، وبورتسودان، كما شاهدت، ليكون مجالاً للفرجة حيث يرى الزائرون أنفسهم داخل جناحها. وكانت تدخل في حوارات عفوية، وتجيب على أسئلتهم بإناة، وصبر، ولا تفتر همتها في التعريف بتراث أهل السوداني بمختلف مناطقه. وكان وجهها يكتسي بابتسامتها المنتظمة حيث تودع زوار معرضها ببشاشة. وفي الخارج شاركت سعدية الصلحي في مهرجانات عديدة عرفت بالثقافة السودانية، ونالت عضوية لجان عالمية في مجال الأزياء. ورغم مغريات الهجرة أمام سعدية – بتخصصها النادر – الا أنها رفضت مغادرة أمدرمان التي أحبتها فلم تستطع الانقطاع عن مرتع الصبا. فهي كل ما ابتعدت عن المدينة تاقت للرجوع إليها لتمارس طقوسها في بيت الأسرة الذي تفوح فيه رائحة العراقة. سعدية الحاصلة على أكثر من أربعة أوسمة تقديرية في بلادها تحدثك عن كل شي يتصل بمجالها في الرسم، والحياكة، والتطريز، والنقش، وتستطرد في الشرح وترد الممارسات الاجتماعية إلى أصولها الضاربة في التاريخ بكثير من ثراء المعلومة. كانت فلسفة سعدية في عملها تنطلق من فهم سودانوي لا بد أنه يعود لنشأتها وسط بيئة مليئة بالتنوع البديع، ونتيجة لتجوالها في مختلف بيئات السودان لشمل هذا المزيج الثقافي في معارضها، ولهذا تقول دوماً بضرورة الحفاظ على القديم، وتطوير خاماته حتى لا يفقد هويته الأصلية. وهذا الفهم هو ما جعلها ترتبط بوطنها، وتضحي بوقتها من أجله، وتشدد على الأجيال المتعاقبة الاعتزاز بخصوصيتنا حتى لا نفقد في وجه العولمة أهم ملامحها التي عرفت بها، موضحةً أن هذه الأزياء بتوفر خاماتها تتناسب مع قيمنا، ومناخنا، وتفردنا. رحمها الله، وأسكنها فسيح جناته، وبقي أمامنا دين بأن نرد لها جميلها، وكرمها، وفضيلتها، بأن نقيم لها مركزاً ثقافياً تستحقه بجدارة، على أن يحتوي على مقتنياتها الفلكلورية التي جمعتها لمدى أكثر من نصف قرن حتى يتعرف كل جيل جديد على حبها لبلادها، ومدينتها أمدرمان، وحي العباسية خصوصاً.