1
اشرنا في مقال سابق الي تراكم المقاومة ضد انقلاب 25 أكتوبر، والذي حتما سوف يفضي الي لحظة الانفجار الشامل الذي سوف يطيح بالنظام ويلقي به في مزبلة التاريخ، وأن شعب السودان يستند الي رصيد وتجربة في منازلة النظم الفاشية القمعية، مثل تجربة الاضراب السياسي والعصيان المدني في ثورة اكتوبر 1964م، ونشهد الآن توفر الظروف الموضوعية نفسها التي ادت لاندلاع ثورة اكتوبر 1964م، ويبقي ضرورة توفر الظروف الذاتية والتي اهمها وحدة وتلاحم قوي الثورة الهادفة لانجاز أهدافها ومهام الفترة الانتقالية لا التسوية مع الانقلاب العسكري، بل اسقاطه وانتزاع الحكم المدني الديقراطي ، وتصعيد النضال السياسي الجماهيري حتي اعلان الاضراب السياسي والعصيان المدني، ومواجهة العصابة الحاكمة بقوة حتي الاطاحة بها..
2
الواقع أن ثورة اكتوبر لم تكن حدثا تلقائيا او عفويا، بل كانت حصيلة لتراكم مقاومة الشعب السوداني
منذ صبيحة انقلاب 17 نوفمبر 1958م، عندما سلم عبد الله خليل رئيس الوزراء يومئذ الحكم للجيش، بهدف مصادرة الديمقراطية والقضاء علي الحركة الديمقراطية في البلاد، ومصادرة نشاط الحزب الشيوعي الذي كان متناميا وتصفيته، وكبت حركة الطبقة العاملة ، ومنع تطور حركة المزارعين، والركوع للاستعمار الحديث ووقف الثورة الديمقراطية في البلاد. وبالفعل كانت أول القرارات صبيحة الانقلاب هي : حل جميع الأحزاب السياسية، ومنع التجمعات والمواكب والمظاهرات، ومنع صدور الصحف حتي اشعار آخر، وفي نفس يوم الانقلاب أعلن النظام حالة الطوارئ، وايقاف العمل بالدستور وحل البرلمان، كما صدر قانون دفاع السودان لعام 1958 ولائحة دفاع السودان لعام 1958م، وتمت بموجبهما مصادرة ابسط حقوق الانسان، بجعل عقوبة الاعدام أو السجن الطويل لكل من يعمل علي تكوين أحزاب أو يدعو لاضراب أو يعمل علي اسقاط الحكومة أو يبث الكراهية ضدها، كما تم حل النقابات والاتحادات، ومصادرة جريدة ” الطليعة” التي كان يصدرها اتحاد العمال واعتقال القادة العمال وعلي رأسهم: الشفيع أحمد الشيخ ورفاقه وتم تقديمهم لمحاكمات عسكرية ايجازية.
وكان الهدف من الهجوم الشامل علي الحريات تجريد الشعب من كل أدواته الرئيسية في الصراع لانجاز مهام التطور الوطني الديمقراطي.
وصدر أول بيان للحزب الشيوعي بتاريخ 18 نوفمبر 1958 يدعو لمقاومة الانقلاب العسكري واسقاطه واستعادة الديمقراطية، بعنوان: ” 17 نوفمبر انقلاب رجعي”.
بعد ذلك استمرت مقاومة الشعب السوداني للانقلاب والتي وثقها كتاب: ثورة شعب (اصدار الحزب الشيوعي 1965م) توثيقا جيّدا عن طريق البيانات والعرائض والمذكرات والاضرابات والمواكب والاعتصامات، والصمود الباسل للمعتقلين في السجون والمنافي وأمام المحاكم وفي غرف التعذيب ، والاعدام رميا بالرصاص.
تابع الكتاب نضالات العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين والمرأة السودانية ومقاومة الشعب النوبي ضد اغراق حلفا وتدمير ثقافة القومية النوبية وارثها التاريخي العظيم، وتنصل الحكومة من الوطن البديل بجنوب الخرطوم. ونضال جبهة أحزاب المعارضة، وحرب الجنوب التي تفاقمت، ودفاعات المناضلين أمام المحاكم، كما وضح موقف الحزب الشيوعي من المجلس المركزي وانتخابات المجالس المحلية..
3
كانت تجربة الاضراب السياسي من اهم تجارب ثورة اكتوبر، جاءت فكرة الاضراب السياسي في بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني بعنوان” حول الاضراب السياسي العام” في أغسطس 1961م، و الذي نشر في العدد ( 109) من مجلة الشيوعي ( المجلة الفكرية للجنة المركزية) الصادر بتاريخ: 29/ أغسطس/ 1961م.
وفي 4/1/ 1961م اصدر المكتب التنظيمي المركزي للحزب الشيوعي السوداني كتيبا بعنوان في ” سبيل تنفيذ شعار الاضراب السياسي العام: لنرفع عاليا رآية التنظيم، خطة من المكتب التنظيمي المركزي”.
الجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي طرح فكرة الاضراب السياسي لأحزاب المعارضة، ولكنها لم تتجاوب معها، وبعدها انسحب الحزب من جبهة احزاب المعارضة، وطيلة الثلاث سنوات ظل الحزب الشيوعي يعمل بصبر مع الحركة الجماهيرية الي مستوي تنفيذ الاضراب السياسي ، الي نقطة الانفجار الشامل.
وجاءت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 6 يناير 1963م، والتي اكدت علي شعار الاضراب السياسي وعالجته بالمزيد من الوضوح السياسي والفكري والتنظيمي، واجابت اللجنة المركزية علي السؤال: ماهو الاضراب السياسي العام؟ علي النحو التالي:
” أنه توقف الجماهير الثورية عن العمل ، ويتم تنفيذه عندما تصل الجماهير الثورية الي وضع لاتحتمل فيه العيش تحت ظل النظام الراهن، ولهذا فهو يمثل تغييرا كيفيا في وضع الجماهير الثورية وعقلياتها، انه عملية وسلسلة وليس ضربة واحدة، عملية من الدعاية والعمل الفكري الدائب ضد تهريج النظام الراهن من أجل تعميق الاتجاهات الثورية لدي الجماهير من التعليم والتجارب، من المعارك اليومية المختلفة والتآزر حولها، من بناء قوي ثابتة للجبهة الوطنية الديمقراطية ، من نضال قانوني وغير قانوني، من تحسين وتأهيل للحزب الشيوعي ووضعه في القيادة، وارتقاء لنفوذه الأدبي، وكل مايسير في طريق هذه العملية ثوري ومفيد ويقرب الناس من الاقتناع بالاضراب والاستعداد له ثم تنفيذه” (ثورة شعب، ص 435.
4
تابع الحزب الشيوعي الحالة السياسية حتي توصل الي لحظة الانفجار الشامل ونضج الأزمة الثورية، كما يتضح من البيان الذي اصدره الحزب الشيوعي بتاريخ 20/ 10/ 1964م، بعنوان ” أزمة النظام الراهن تتفاقم مزيدا من اليقظة والوحدة”.
أشار البيان الي أن النظام تقلصت قاعدته الاجتماعية وفقد كل سند له غير بعض المنافقين من كبار الموظفين ورجال الادارة الأهلية، وانحسر حتي تأييد طائفة الختمية له، اضافة الي تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية، واتجاه السلطة الي القاء الأزمة علي عاتق الكادحين.
كان ذلك قبل يوم من أحداث الندوة الشهيرة في جامعة الخرطوم حول قضية الجنوب، والتي هاجمها البوليس واطلق النار علي الطلاب المتظاهرين مما أدي الي استشهاد أحمد القرشي ورفاقه، وكانت ندوة جامعة الخرطوم “القشة التي قصمت ظهر البعير” ، بعد أن وصلت البلاد الي لحظة الأزمة الثورية والانفجار الشامل.
واصدر الحزب الشيوعي بيانا بتاريخ: 22/10/ 1964م بعنوان ” ضمير شعبنا ينزف دما” ، بعد استشهاد احمد القرشي ورفاقه، ودعا البيان الي “الاتحاد في جبهة ديمقراطية تستهدف القيام باضراب سياسي عنيد لايتراجع أمام مظاهر القوي الكاذبة حتي يطيح بالنظام الرجعي الراهن”.
كما صدر خطاب داخلي من السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي بتاريخ: 22/10/1964م، دعت فيه عضوية الحزب لتنظيم الاضراب السياسي العام احتجاجا علي مجزرة جامعة الخرطوم”.
وايضا صدر بيان من مكتب النقابات المركزي التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني بتاريخ: 24/ 10/ 1964م دعا فيه الي الاضراب العام، ووجه الدعوة الي جميع العمال و الموظفين والمحامين والاطباء والقضاء والمعلمين وكل من استنكر هذه الجريمة النكراء الي الاشتراك في هذا الاضراب”.
وصدر بيان من الحزب الشيوعي بتاريخ: 25/ 10/1964م دعا فيه الي الالتفاف حول جبهة الهيئات التي اعلنت الاضراب ( محامين، عمال، قضاء، معلمين ، اطباء مزارعين..) وجعلها قيادة لحركة الاضراب.
وبعد اعلان الاضراب السياسي العام صدر بيان الي جماهير الشعب السوداني باسم عبد الخالق محجوب عثمان عن الشيوعيين السودانيين، دعا فيه الي مواصلة الاضراب السياسي العام حتي : التصفية النهائية للحكم العسكري الرجعي، والغاء حالة الطوارئ فورا والغاء كافة القوانين المقيدة للحريات، وقيام حكومة انتقالية تمثل قوي ثورة 21 اكتوبر المجيدة، واطلاق سراح جميع المعتقلين والمسجونين السياسيين فورا.واستمر الاضراب السياسي العام حتي نجحت الثورة في الاطاحة بالحكم العسكري واستعادة الديمقراطية.
5
ةأخيرا ،اصبح الاضراب السياسي العام سلاحا قويا في يد الشعب السوداني، فقد اطاح شعبنا بديكتاتورية النميري في انتفاضة مارس- ابريل 1985م عن طريق الاضراب السياسي العام والعصيان المدني. وسوف يطيح شعبنا ايضا بانقلاب 25 أكتوبر الراهن الذي فرط في وحدة البلاد وافقر شعبنا ونهب ممتلكاته ومارس ضده كل صنوف القهر والقمع ايضا عن طريق الاضراب السياسي والعصيان والمدني وحماية نهوضه الجماهيري.
alsirbabo@yahoo.co.uk