اكثر شئ يحزننى فى السودانيين هو التدخل فى حياة الآخرين الخاصة، واقحام انفسهم فيما لا يعنيهم، وايضا عدم احترام وتقبل الرأى الآخر، واعتبار ان الذى يخالفك الرأى عدواً!
أذكر عند لحظة وفاة والدى، وبينما أنا لحظتها أستذكر وصاياه ونصائحه كلها كأنها شريط سينمائي أمامى، التف حولى جمع غفير من الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم ..والكل يطالب بسرعة التخلص من جثمان أبى الحبيب! مرددين: إكرام الميت دفنه سريعاً ..
وبكل هدوء طالبت الجميع بالخروج من المكان الذى فيه جسد والدى الطاهر، وناديت على أمى وأخواتى وإخوانى والأحفاد للجلوس امام المرق الذى انكسر، والدعاء وقراءة القرآن ..
ومن ثم اتصلت بكل الأسرة، وقررنا مكان وزمان الدفن ؛ لإعطاء سعة من الوقت لحضور الدفن والصلاة ..
وبالفعل كانت صلاة محضورة، وأيضاً طلب أحدهم أن يتقدم الصلاة شخص بعينه، ولكنى أعلم تماماً من هو الشخص الذى يحبه والدى، ويريده أن يصلى عليه ..
فى لحظة الدفن حضر درمة كعادته، وأنا لا أعرفه، وآخرون تدخلوا فى أخص الخصوصيات ..
بعض السودانيين يعتبرونه امراً جيداً وعشماً، واعتبره تدخلاً قبيحاً فى الخصوصيات، فأنا عمرى لم أدخل على أبى بدون إذن، ولم افتح ثلاجة أو دولاب لأحد فى منزلنا ..وأبنائي وبناتى لا يدخلون حماماً فى بيت احد من دون اذنه، ولا يتناولون الطعام أو قطعة فاكهة حتى فى بيت جدهم دون إذن.
التدخل فى الخصوصيات بدعاوى المحبة والعشم أمر محزن جداً وعواقبه وخيمة.
وقد لاحظت مؤخراً فى قروبات الواتساب التى تجمع الأهل والأصحاب والرأى، وحتى فى القروبات الرسمية، عند أى خلاف يحصل حرد وزعل وينقسم الناس إلى معسكرات، ومن ثم يؤدى ذلك إلى حرد فلان وعلان وخروجهم من القروبات، ومن ثم “التحنيس” لإرجاعهم بدون اعتذار أو مؤسسية أو شفافية، حتى لو ارتكبوا أخطاء كبيرة! فنحن شعب لا نحترم النظم والضوابط والمؤسسية ..وقد نخرق كل شئ لإرضاء هذا وذاك بمعايير مختلة جداً ..
فنحن فى معظمنا شعب loose ‘لا يحترم النظام واللامبالاة طابعنا، لذلك نفشل فى العمل الجماعى حتى على مستوى كرة القدم ..وتنقسم أسرنا وأحزابنا وجمعياتنا التطوعية..الخ على أسس شخصية جداً ..لأن الشخوص عندنا تعلو على المؤسسات!
يختلف شخصان، بعدها تنقسم المنظومة سوا كانت عائلة أم منظمة أم حزب! ..
وأتذكر أن أحد الجيران (ص) كان أبناؤه الثلاثة متزوجين من بنات عمهم ( س)..وأولاد هذا العم متزوجين بدورهم اثنين من بنات نفس العم أى ( ص)…حدثت مشكلة لابن ( ص) الأكبر مع زوجته وهى ابنة ( س) فقام بطلاقها.
فطلبت زوجة العم (س) من أبنائها ان يطلقوا زوجاتهم بنات (ص) ..وإلا فإنها لن ترضى عنهم إلى يوم القيامة ..! وكانت معركة استمرت طويلاً، وتركت خلفها ضحايا لا ذنب لهم!!
لهذا وغيره دوماً إقول إن التغيير يبدأ من أنفسنا ..وتربية أطفالنا وتعليمهم ..وتكامل بين البيت والمدرسة، وتنشئة ديمقراطية تعلم الطفل أن اختلاف الرأى ظاهرة إيجابية وعادية وليس ” خيانة” أو جريمة ..بل هى طبيعة الحياة.
وأن الجهر بالآراء والنقاش المنهجى والعلمى لها يؤدى إلى التجويد والتعليم والتكامل والتلاقح ..والثراء.
لنختلف فى الآراء، وتعم بيننا المحبة ..وكل الجمال، وياريت تعلو المؤسسية على الفردية؛ لكى نتدرب ونتعلم لبناء دولة المؤسسات.
د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال