في مثل هذا اليوم قبل 53 عاماً أُطلِق سراح المعتقلين من أهالي بنقنارتي وحمور وبكبول، الذين اعتقلتهم حكومة الفريق إبراهيم عبود، بتهمة الاعتراض على قرار السلطة ببناء مكتب (كلوبوكس) بالقرب من نُقطة البوليس.. كان الخلاف حاداً بين (ناس الشرق)، الذين أجبرهم فيضان 1947 على الرحيل بعيداً عن ضفاف النيل، وبين (ناس الجزيرة) الذين آثروا البقاء في دمرهم القديم، بجزيرة تنقسي.. اختلف الأهالي حد الشِّجار، على مقر مكتب للتليفون والتلغراف، الذي كان في زمانه، كأنه الشبكة العنكبوتية في عصرنا.. سُلطة نوفمبر حسمت الخلاف وأصدرت قراراً بتشييد الكلوبوكس قريباً من مرسى الباخِرة، وبجانب مدرسة تنقسي الوسطى، وهي مبنى عتيق له إطلالة على النيل، على نسق القصر الجمهوري في الخرطوم.
القرار لم يُعجب سكان الشرق الذين وصفوا القرار بالتعسُّفي، وقرروا مناهضته بشتى الوسائِل، وعقدوا لأجل ذلك اجتماعات عديدة، للاتفاق على كيفية المقاومة.. كان اجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص ممنوعاً وفق قانون الطورائ، الذي تدين نصوصه كل من يشارك، في أي تجمعات (غير مشروعة).. كانت القبضة غاشمة، لكن الثورة كعهدها لا تحتاج الاستئذان، فالثورة عبقٌ.. في بدايات أكتوبر 1964، عقد ناس الشرق، آخر اجتماع لهم بدكان المرحوم عبد الرحيم تركمان، وقرروا تدبيج مذكرة احتجاجية ضد القرار.. صاغ نص المذكرة الأستاذ عبد العال حمور، وتم تحديد وجهتها للفريق عبّود شخصياً، بعدَ أن ذُيِّلت بأسماء (21) من معارضي القرار، ورد بينها اسم رجلٍ غَشِي المجلس صُدفةً، ولم تكن له علاقة بالسياسة، هو عبد الرحيم إلياس، من أهالي بنقنارتي.
بعد أيام قليلة، وصلت برقية عاجلة من القصر الجمهوري إلى مركز مروي بالقبض على كل من وردت أسماؤهم في المذكرة، بتهمة معارضة النظام.. تمكنت العناصر الشرطية من القبض على المطلوبين وحشرتهم في كومر الحكومة الذي شقّ طريقه في رِمال أرقي متوجهاً نحو قِسم الدبّة.. في أرقي شرق النيل، كانت للكومر وقفة أمام مسيد شيخ الحيران، وكانت مناسبة أن طلب بعض المعتقلين (الفاتحة) من شيخنا ودْ أب نيران.. كان الحكم عنيداً، مثل بوز البُووت.. يُحكى أن الشيخ قال لهم: (أكان كتبتوها اللّه يحنِنْ علينا وعليكم، وأكان ما سوّيتوها كمان، الله يحنِنْ علينا وعليكم)!.. حاج عثمان – رحمة الله عليه – قال: (نحن كتبناها، والسّاويها الله تقوم في الحجر)!.
وتحرّك الموكب، وكان شيخ عووضة العطا يناجي الرّكب، بما معناه أن (الرجال قدامكم، قاعدين في كوبر بالسنين)، رغم ما شاعَ من أن عقوبة مناهضة النظام، ليست سجناً، وإنما (إعدام عديل) وفق قوانين المجلس العسكري.. بعد التدقيق الإجرائي المتبع، أُدخِل المتهمون حراسة الدبة قبل ترحيلهم لمركز المديرية.. عندما وصلوا مروي، و(ضَاقوا صَنَبَها) كانت رياح الثورة قد هبّت وفارَ التنّور.
اشتعلت الخرطوم بعد ندوة الجامعة، وشاع نبأ مصرع القرشي، فتقدّم الفريق عبّود باستقالته، وصدر القرار بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، فعاد مناهضو الكلوبوكس إلى شرق الله البارد سالمين.. رحمة الله عليهم أجمعين، حكّاماً ومحكومين، فكم كانَ الزمانُ رحيماً بأهل هذه البِلاد.