عندما يفتقد الإنسان الأمن والأمان يذهب طعم الحياة، وتصبح الهواجس والمخاوف هي الغذاء في كل آن، ويتمحور الهدف في البحث عن ملاذات آمنة، ويتعلق المرء كما يقولون بـ”قشة”.
هذا الإحساس يعيشه الناس في النيل الأزرق منذ أن أطلت أعمال العنف برأسها، وبات هم المساكين من أهل المنطقة البحث عن الأمن، فنزح من نزح منهم، وهم لا يعرفون إلى أين تأخذهم خطواتهم، ولكن المهم الهروب من دائرة الحرب المحتملة، التي يشتمها كل ذي عقل، إلا القابضون على السلطة، الذين لا هم لهم غير المتاجرة بأوجاع الناس.
وعندما اشتعلت الأحداث على نحو غير مسبوق، لم نر ونلمس غير التحرك السلحفائي، والنداءات الحنجورية، بينما الدماء تسيل، والجثث تتفحم، والتمثيل بها ينذر بمرحلة غير مسبوقة من العنف القبلي، الذي يفارق أي قيمة أخلاقية.
ويقودنا هذا الوضع غير الإنساني والمزري إلى التساؤل: أين حكومة الإقليم التي تشكلت وفق اتفاق هدفه تحقيق السلام، وإزالة التهميش، الذي كان مسوغ كل الحركات المسلحة حين حملت السلاح؟ ثم أين الحكومة الاتحادية التي يتصدر مسؤولوها وسائل الإعلام، ويهدد عسكروها المدنيين بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويحصدون أرواح الشباب بأسلحة الشعب، الذي دفع ثمنها من أجل أن تكون وسيلة لردع الخارجين والمارقين، ومشعلي الفتن، إلى جانب حماية حدود البلاد؟
إنَّ عدم قيام الأجهزة الأمنية ببسط الأمن، وحماية المدنيين، والضرب على يد المعتدين، الذين تخطوا كل الحدود، يثير علامات استفهام كثيرة، خصوصًا أن الأحداث غير مسبوقة، إلى حد أن استدعى الناس أحداث رواندا في منتصف التسعينيات، حيث القتل على الهوية، والتمثيل بالجثث، بل ملاحقة النازحين، والإصرار على قتلهم، والأدهى أن منع بعض المسؤولين العربات من نقل المواطنين، كان سببًا في زيادة أعداد الضحايا.
وهناك من يشير إلى أنَّ إعادة مئات النازحين إلى ديارهم من دون ضمانات كافية، ومصالحات حقيقية، كانت سببًا في عودة الاقتتال، والعنف الذي تفجر بشكل أسوأ من سابقاته، وهذا يعني عدم الجدية في وضع الحلول التي تخاطب جذور المشكلة، وتنزع فتيل الفتنة.
ولا شك أن قراءة الأحداث لا يمكن أن تجري بعيدًا عن التاريخ البعيد والقريب، فما أحدث النظام البائد من شقوق وانهيارات في بنية المجتمعات في طول البلاد وعرضها، من أجل شراء الوقت، واللعب على التناقضات، والانحياز إلى قبائل بعينها على حساب قبائل أخرى، كل هذا يجب أخذه في الحسبان، إلى جانب ما يقوم به الفلول اليوم؛ لإظهار عجز الدولة، حتى يترحم المواطنون على أيامهم، التي هي سبب كل بلاء اليوم.
إنّ هذا الأمر الجلل الذي يهدد بقاء الدولة، وينذر بتشظي السودان، يعني في المقام الأول أن المناداة بدولة مدنية ليست ترفًا، بل هي المخرج الحقيقي من هذا الوضع المأزوم، الذي يلقي مسؤوليات جسيمة على الأجهزة الأمنية لتقوم بدورها في بسط الأمن، وفرض هيبة الدولة، وفق رؤية واضحة تؤكد دور العسكر، الذي لا يتضمن بحال من الأحوال الحكم، بقوة السلاح، وفرض الأمر الواقع؛ لأن ما يجري اليوم من أحداث مؤسفة تؤكد أن تغولهم على الحكم، ونسيانهم دورهم الرئيس، من أسباب هذه الأحداث، التي تنذر لا بزوال حكمهم، بل بزوال الدولة بأسرها، لتصبح أثرًا بعد عين.