الشائعة أحدى أسلحة التأثير على الرأي العام بتربيتها للاحتقان، وتوزيعها للألغام والفتن ما ظهر منها وما بطن. الشائعة في هذه الايام تبدو كجائحة الجوائح وتنتشر كما النار في الهشيم بين مستخدمي السوشال ميديا فتقتل من تقتل وتصيب سير وعروض الناس وتفتك بالنسيج الاجتماعي عن طريق انتقال عدواها لمنصات التواصل الفيزيائي لتجعل كل باب يقود إلى الحقيقة مغلقا في وجه الباحث عنها. والشائعة في العرف العلمي الأكاديمي خبر مجهول المصدر وذو غرض. ولهذا فإن من سوء طالع الفلول والمنتفعين من تجربة الإنقاذ التعبير عن زوال مصالحهم صناعة الشائعة ورميها على قارعة الطرق الإلكترونية ليلتقطها المستفيدون من غرضها او الباحثون عن سبق صحفي ويعملون على إذاعتها بتمام التوقيت ودقة الإخراج. الشائعة الآن هي الحاكم والخيط الناظم لغالبية الفتن وخاصة ما يتفاقم ويشيع من حروب واحترابات سياسية وقبلية. أثناء عملي بالتدريس بقسم الإعلام بكلية الآداب بجامعة الخرطوم بالعشرية الأولى من هذا القرن أوكل لي تدريس مادة الراي العام ضمن مساقات التدريس. وعندما كنت أتناول الشائعة التي هي باب من مادة الرأي العام كنت أعمد وأسهب في تأكيد أن قتل الشائعة لا يتم إلا بصناعة شائعة مضادة اشد منها صدمة وذلك حسب ما استفدت منه من مراجع توفرت لي للمادة.
ولكني وبصفة شخصية لم أنتفع من ذلك العلم ومراجعه إلا عندما جرت لي الواقعة التالية مع الراحل الهادي نصر الدين الشهير بالضلالي: ففي مؤانسة جرت لي مع ذاكرة وفاكهة أمدرمان الراحل الهادي نصرالدين (الضلالي) بمنزله ذات زيارة من ضمن زياراتي المتكررة التي كنت أحاول إقناعه دون جدوى منها بتوثيق سيرته. حكى الضلالي عن علاقة وطيدة كانت تجمعه بمهدي مصطفى الهادي محافظ مديرية الخرطوم الأسبق، وأن مهدى مصطفى كان وبنفس الدرجة من قوة وقرب صلة بجعفر محمد نميري. قال الهادي إن جعفر النميري الذي كان جارهم وود حلتهم قد لبى دعوة غداء لسماية بمنزل ناس الهادي ولكن وعلى غير العادة لم يقرئ النميري السلام للهادي، فالتقاه الهادي في لحظة غسل اليدين بعد الانتهاء من تناول الغداء وسأله: مالك يا جعفر معاي؟ رد نميري بغضب: انت ما متذكر الكلام القلتو فيني لمهدي؟ فهم الهادي الضلالي أن مهدي مصطفى الهادي قد أوصل نكتة أو دس خبرا مسموما أو حكاية لنميري على لسانه من باب الظرف أو التظرف، وسرعان ما حول الرجل الهزيمة إلى انتصار ساحق ماحق على مهدي عندما رد بسرعة لنميري: هو انت ما سمعت البقولو فيك مهدي ده؟ سأله نميري يحثه لقول ما يقوله مهدي عنه فجاءت إجابة الضلالي هنا: ها خليها ساكت. حكى الهادي أن مهدى قد تمت إقالته في نشرة أخبار الثالثة ظهرا لليوم التالي، وسمع بإقالته كل الناس وأنه (أي الهادي الضلالي) أصبح من يومها مهابا عند وزراء نميري وكبار موظفيه. لا تدحض الشائعة بنفيها أو التسريبات السامة بالتبرؤ منها، بل بأخريات امتن بناء وحبكة وفرقعة.