في شندي الجميلة آتيا من الشمال القصي الشحيح غيثه شهدت خريفي الأول حين جئتها تلميذا صبيا ففوجئت بمطر مدرار وبروق تتوهج تخطف الأنظار ورعود مخيفة تقصف فوق رأسي مع دوي يزيده زنك السقف قعقعة فأسد أذني بيدي رعبا لكن هيهات!
في بلاد الحاج يوسف اعتدنا أن يشاركنا المطر عيد الفداء حوليا لا يخلف وعدا ولا ” يفاجئ ” إلا بعض المسؤولين غير اليقظين.
وهو يأتي بخير وفير في البقاع الزراعية كالقضارف حيث يتولى ري ملايين الأفدنة هبة من رب العباد فيفيض ذرة وسمسما ودخنا وضرعا حيث المراعي المديدة التي ترتع فيها قطعان الضأن والإبل والبقر فيتوافر الحليب والسمن وسائر المشتقات.
وباندياح الدعاش وإقبال الخريف رسم الحردلو مساديره العبقة:
الخبر الأكيد قالوا البطانة اترشت
أما في البنادر فيأتي غدقا لتتهاوى البيوت الطينية الهشة كقطع البسكويت تحت ضرباته المتتالية الموجعة فتلتحف الأسر السماء بلا غذاء ودواء في مشاهد دامعة أليمة.
لكنا لا نتعلم فكثيرون يعيدون البناء مجددا ربما في المواقع عينها بل وبالمواد ذاتها فلا نتزحزح للمرتفعات ولا نهندس المصارف المستدامة ولا نحاول التشييد بالخشب كما يفعل أهلنا في البحر الأحمر مثلا ولا يتيح المختصون في معاهد المعمار مادة رخيصة تقوى على المياه الكثيفة وبذا نظل أسرى مسلسل التحطيم وعناد التكرار.
يتكامل المشهد الدراماتيكي بعربدة فيضان الدميرة العاتي الذي يأخذ برقاب الجزائر السابحة في الجمال .. توتي التي اختارتها الأمم المتحدة ضمن أفضل 8 مناطق في العالم مثالا:
عجبوني الليلة جوا * ترسوا البحر صدروا
يحل خريف المدائن فتختلط النفايات بالوحل ما يجعل البيئة متردية أشهرا في غياب الإصحاح البيئي حتى في الأحياء المصنفة ” هاي”! كحي المعمورة الذي سكنت فيه حديثا لضرورات رغم هوى نفسي التي لا ترتاح إلا في الأحياء الشعبية التي لا أجد لها مثيلا في التداخل وحسن العشرة كمايقوما الحاج يوسف.
يا حليلهم دوام أطراهم
بعد مطرتين قويتين في العاصمة تتشكل البرك والمستنقعات حيث يتردد في أرجاء الأماسي المخملية بالنسيمات الرغيدة وألحان الأعراس الطروبة من بعيد نقيق الضفادع المتبادل المتناغم’ التي تنشط بعد خمول طويل وتنبعث الروائح القوية التي تزكم أنوف المجاورين والعابرين ويجد البعوض مرتعا لتتكامل أطوار بيضه إلى يرقة فشرنقة ثم حشرة كاملة وتدور رحى التوالد السريع فتهجم أسرابه خلق الله المكدوين من رهق النهار فتحيل منامهم إلى سهر ” صباحي ” فيقع كثيرون صرعى الملاريا اللعينة التي تنقلها الأنوفيليس أنثى البعوض الشرسة بلا هوادة! فيما تتولى سحائب الذباب المنزلي الدوام النهاري باحترافية.
بعد أن ترتع جيوش الناموس والذباب في الناس المغلوب على أمرهم تأتيك في نشرة الأخبار أن طائرات رش ستنفث مبيدا صباح مساء أياما معدودة.
حسنا
أين كانت تلكم الطائرات منذ بدء النكبة?
لماذا لا نرى عمال محاربة الناموس والمضخات على أكتافهم يجوبون الأحياء?
لماذا لا نتجه لتصنيع النفايات التي تخنق الطرقات كالدول الأخرى?
ثم أين لجان الأحياء التي إن استعانت ب ” الزيت الراجع ” لأنقذت الموقف المأزوم?
سادتي
إن وضع صحة البيئة في العاصمة كارثي بكل المقاييس. وشكرا لأحد ولاة الخرطوم’ الذي صرح وصارح بأن الوضع فوق طاقتهم.
بكل هذه الحيثيات والمعطيات القاتمة أنادي بقوة بتخصيص 2023
عاما للإصحاح البيئي رحمة بالمواطنين وإعلاء من شأن عاصمتنا واجهتنا في عيون أهلها وزوارها من الداخل والخارج’ مع إحياء مشروع القامبيا.
ألا هل بلغت!?
رحم الله الشامخ د. منصور خالد الذي ابتدع عنوانا لأحد كتبه عبارة تأملية تشي بحالنا البئيس المتناسل:
تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد
أنور محمدين