تقديم
عبد الله علي إبراهيم
عبد الله الفكي البشير
أعلنت هيئة الشارقة للكتاب اختيار البروفيسور يوسف فضل حسن شخصية العام الثقافية لفعاليات الدورة الـ41 من معرض الشارقة الدولي للكتاب (1-13 نوفمبر 2022)، الذي تتبلور رؤيته في تكريم أعلام الفكر والأدب والتاريخ، الذين شكلت جهودهم المعرفية إضافات نوعية إلى المكتبة العربية في مختلف المجالات. واستجابة لهذه الرؤية جاء اختيار يوسف، تقديراً لإسهاماته الجليلة في مجال الدراسات التاريخية في السودان، ودوره في تطوير العلاقات العربية-الأفريقية على المستوى الأكاديمي. وتثميناً لهذه الرؤية وإجلالاً لإسهامات يوسف يدشن معهد أفريقيا بإمارة الشارقة اليوم الثلاثاء 1 نوفمبر 2022 كتاباً بعنوان: “المؤرخ يوسف فضل حسن: رصانة الكسب وجزالة العطاء”، لمؤلف أحمد إبراهيم أبوشوك. وعليه يسرنا أن ننشر تباعاً تقديم البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، (2) ويليه تقديم الدكتور عبد الله الفكي البشير، (3) ثم مقدمة المؤلف؛ لإلقاء إضاءات ساطعة على محتويات الكتاب، الناظم لسيرة يوسف في فضاءاتها المتعددة، والموثوقة في جوهرها بتمكين رسالة التعليم والتعلم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع.
تقديم
يُوسُف فضل حسن: مؤرخًا وتاريخًا
عبد الله علي إبراهيم
كنتُ أبحث عن عبارةٍ دالةٍ على متانة هذه الكتابة التي أحاطت بالمأثرة الأكاديمية لأستاذنا يُوسُف فضل حسن وأجادت. وطرق أذني من التلفزيون من وصف ملكة بريطانيا الراحلة بأنها لم تصنع التاريخ فحسب، بل كانت تاريخًا أيضًا. ووقعت لي. فمع أنَّ إحسان أحمد أبو شوك في عرض هذه المأثرة عائد إلى مهارة في التأليف اكتسبها من موالاة البحث والكتابة والنشر لأكثر من عقدين؛ إلا أنه وجد في يُوسُف موضوعًا مثاليًا لتأليف متين. فلم يكتب يُوسُف التاريخ فحسب، بل كان تاريخًا في مباحثه وتدريسه وخدمته للعلم أيضًا. أصاب الكتاب السداد في الإحاطة ببركة تنزلت من لدن يُوسُف على الأكاديمية السُّودانية لقريب من ثلثي قرن. فعرض لأكاديميته من وجوهها جميعًا وهي البحث، والتدريس، والخدمة للجامعة والوطن. وما شاء الله. فليُوسُف 21 كتابًا في العربية، و8 في الإنجليزية، و9 كتب تحت الإعداد والطبع، و59 ورقة علمية بالعربية، و29 في الإنجليزية. وكتب مقدمات ومراجعات لـ30 كتابًا. ودرّس مناهج عن تاريخ السُّودان والإسلام والعرب في كلية الآداب منذ 1957. وله في خدمة الجامعة بركة طائلة. فاستوفى وظائفها من رئيس شعبة إلى عميد كلية إلى مدير للجامعة نفسها، فترأس وحدة أبحاث السُّودان بكلية الآداب في العام الثاني لنشأتها في 1963، وهي، ووحدة التعريب التي نشأت بكلية الآداب في العام نفسه مما أرادت بهما الجامعة تنفيذ استراتيجيتها القومية في حفظ التراث السُّوداني ودراسته (وحدة أبحاث السُّودان) والشروع في سياسة طويلة المدى لتعريب التعليم (وحدة التعريب).
وسهر يُوسُف على الترقي بوحدته حتى صارت معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية المعلوم. وأوفدت الشعبة، والمعهد من بعدها، الباحثين لجمع تراث الجماعات السُّودانية، فأوفى 40000 شريط بأرشيف المعهد، وأنشأت متحفًا إثنوغرافيًا، وشرعت في مشروعات لكتابة معجم للشخصيات السُّودانية، وتاريخ الحركة الوطنية من أفواه أقطابها وشهود العيان المعاصرين، ورادت مشروعًا لمسح اللغات السُّودانية. وصدر 40 مجلدًا من “دراسات في التراث الشعبي” نشرت بعض ما تحرر من حصائل ما جمعت منه.
وجاء يُوسُف لعمادة كلية الآداب في 1975 وبقي فيها حتى 1979. وفي عهده صارت الدراسة في الكلية على طرائق الساعات المعتمدة لا على طول العام بفترتين دراستين. وسترى من الكتاب كيف أدار يُوسُف مثل ذلك التغيير الجذري بدماثة استصحب زملاءه في قيادة الشعب وهيئة التدريس شورى بينهم تحلى خلاله بالصبر الجلل. ووضع خلال عمادته اللمسات الأخيرة لقسم الدراسات الإسلامية بالكلية لتشجيع البحث المتداخل التخصصات في الإسلام. كما حث وحدة الترجمة والتعريب لعقد أول مؤتمر لتعريب التدريس بالجامعة. وربما كان الأخير قبل أن يأتينا التعريب من علٍ وبليل بعد انقلاب 1989.
وصار يُوسُف مديرًا لجامعة أم درمان الإسلامية ولوقت قصير في 1984 وإلى 1985. فأنشأ فيها كلية للعلوم وسوّر مباني الجامعة. وعاد مديرًا لجامعة الخرطوم قبيل ثورة أبريل 1985. فعمل مع اللجنة النقابية للأساتذة على وضع قانون الجامعة لعام 1986 الذي استعادت به الجامعة استقلالها عن هيمنة الدولة. وفاز في الانتخابات التي جرت لمدير الجامعة بعد عقدين من احتكار رئيس الجمهورية تعيين من أراد للمنصب. وقامت في عهده كلية جديدة هي كلية إدارة الأعمال بعد فصل شعبة إدارة الأعمال عن كلية الاقتصاد. وأكمل ما بدأه في كلية الآداب من تطبيق نظام الساعات المعتمدة. وأنشأ وحدة للتخطيط والتنمية وأخرى للدعم المالي لتكونا روافع لتكوير الجامعة على المدى الطويل. ولما نشب عنف طلابي بالجامعة احتواه بالبحث في منشئه من ضمن معالجات أخرى.
ومن جهة خدمة المجتمع شارك يُوسُف في 9 لجان وزارية. وترأس تحرير، أو خدم في هيئة تحرير 13 مجلة. كان في ما لا يحصى من اللجان العلمية والمجالس الإدارية مثل المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون والمجلس القومي للبحوث. وكان في ريادة تأسيس الجمعية التاريخية السُّودانية في 1971 وترأسها لدورات طويلة؛ وصدر من مجلتها (المؤرخ السُّوداني) 8 أعداد.
وجسَّد قيامه بمشروع سنار عاصمة للثقافة الإسلامية (2017) خصوبة فكر يُوسُف وخياله. فصدرت ثماره في 110 عناوين من التآليف، وإعادة طبع كتب صدرت عن سنار الفونج والسلطنات الإسلامية، وانعقد 15 مؤتمرًا علميًا بشراكات مع جامعات ومعاهد للبحوث. ما مس شيئًا إلا أينع وما عالج مسألة إلا شفيت.
لقد أضاف يُوسُف للجامعة فضاء معرفيًا وفزيائيا كما لم يقع من غيره. فالمعارف هي المعارف في الجامعة من لدن قامت وكذلك الكليات. إلا أن يُوسُف بث في فضائه المبتكر علم السُّودان (Sudanology) في تقاطعات السُّودان العربية والأفريقية والدولية. ووطن هذا العلم في مبانٍ لم تكن في الجامعة قبلًا، وجوهرتها قاعة الشارقة التي صارت متنفسًا ثقافيًا للخرطوم غير مسبوق.
اتخذ الكتاب نهجًا أخَّاذًا ليكتب عن يُوسُف المؤرخ والتاريخ الذي هو نفسه. فعمد إلى طرائق الاستطراد. فما ذكر ليُوسُف المؤرخ حاضنة من قرية أو مدينة، من مدرسة أو جامعة، من معلم أو زميل، من رئاسة لشعبة أو عمادة لكلية أو إدارة لجامعة، حتى استوفى تاريخها هي ذاتها بالمتن والتحشية المخدومين. فصار الكتاب تأرخة ليُوسُف المؤرخ وليُوسُف التاريخ بكتابة سير الحواضن التي رعرعته فاشتد ساعده ورمى. والاستطراد كالكولسترول حميد وخبيث. واستطراد الكتاب حميد جدًا. فلن تمله لأنه أخذك عما أنت فيه إلى غيره. بل ستحمد سرى هذا الاستطراد لأنه زادك علمًا بيُوسُف وبالعوالم التي خرج منها إلينا تاريخًا وبركة.
فمتى دخل خلوة قريتهم تبورة بولاية النيل تجد الكتاب استغرق وقتًا عن تعليم الخلوة ناظرًا لكتاب “التربية في السُّودان” لعبد العزيز الأمين. بل وأدلى بتاريخ الطرق الصوفية بالقرية: الختمية، الأنصارية، والقادرية. وستجد الكتاب يعرض بتفصيل لسيرة المدن التي عاش فيها يُوسُف: عطبرة، أبو حمد، سنكات، وبورتسودان. ومتى زار موضعًا في رحلة مدرسية جاء الكتاب بتاريخه مثل ما فعل بسواكن ودلتا طوكر. ومتى ذكر الكتاب معلمين طبعوا يُوسُف على التعلق بالتاريخ لم يكتف بقائمة جرداء منهم. فتجده ذكر الأمين البدوي في مدرسة أبو حمد النصفية وفضله عليه بإسناده له دورًا في مسرحية تاريخية هي “يوم البؤس ويوم النعيم” عن أحوال الملك النعمان بن المنذر. وذكر ضرار صالح ضرار في الوسطي ليستطرد في مؤلفات الرجل. وخص بالذكر عبيد عبد النور في وادي سيدنا وجاء بخبر رفض نظام عبود دفنه حيث أراد في مدرسة بيت الأمانة التي كان أسسها أول مرة. وما تحققت وصية عبيد حتى جاء إسماعيل الأزهري إلى الحكم ودفنه حيث أراد.
وإذا زامل يُوسُف نفرًا جاء الكتاب بمادة عنهم. فنجم الدين شريف، عالم الآثار، كان ذا “صوت جميل في غناء الكاشف” في أماسي مدرسة وادي سيدنا. وكان في المدرسة نفسها محمد إبراهيم أبو سليم، الوراق الأعظم، الذي “كان باسق الطلعة، قوي البنية، حسن المعشر، حلو الحديث، له هيبة وبأس يذكرها كل أقرانه”.
فإذا ذكر توظيف يُوسُف غير مسبوق للطيب محمد الطيب باحثًا في وحدة أبحاث السُّودان لم يأنف الحديث عن تأليف الطيب نفسه. فيستطرد مثلًا في عرض كتابه “الشيخ فرح ود تكتوك”
أما أكثر استطراداته توسعًا ونفعًا فكانت عن تاريخ التعليم وجامعة الخرطوم. فتخرج من الكتاب بحصيلة غناء منه. فيتوسع الكتاب في سيرة التعليم الحديث وأهدافه منذ قيامه في السُّودان من لدن جيمس كري (1900)، وتقرير ملنر (1920)، وخطاب التعليم الذي خرجت بخت الرضا (1934) من جدله، ولجنة دي لاوير (1937) الذي أفرغ كلية غردون للتعليم الجامعي. ولاحق تطورات كلية غردون من عهدها الباكر إلى كلية الخرطوم الجامعية (1951) إلى جامعة الخرطوم (1956). ولا ينسى أن يقف عند تصميم شعار الجامعة شراكة بين الدكتور النذير دفع الله وإبراهيم الصلحي والمغازي التي استبطنتها رموزه. وحين جاء يُوسُف للتدريس بكلية الآداب بالجامعة بحث عن تأثر منهاجه “تاريخ العرب” بكتاب يوليوس فلهاوزن (1844-1918) المعنون “تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية” الذي ساد كمرجع في كثير من الجامعات العربية. وتوسع في صفة الكتاب ونهجه.
ومتى دخل يُوسُف مدرسة وادي سيدنا عرض الكتاب لتاريخ الثانويات حنتوب وخور طقت ووادي سيدنا التي جرى فصلها عن كلية غردون. فتعرف منه لم تسمت وادي سيدنا باسمها. ويقف عند طواقم التدريس فيها وتخصصاتهم وقاعاتها واستوديوهات الرسم ومعاملها وداخليات الطلاب بأسمائها. فإذا قرأ يُوسُف كتابًا مثل “الإنجليز في بلادهم” لحافظ عفيفي عرّف بالمؤلف ومؤلفه وقارنه بكتاب “تلخيص بارير” للطهطاوي.
وحين صار يُوسُف في هيئة تحرير مجلة “السُّودان في رسائل ومدونات” (في أكتوبر 1956) جاء الكتاب بتاريخ المجلة من عام تأسيسها في 1918، وغرض الإنجليز منها، والرجال من ورائها، ونطاق المعارف التي نشرتها، وانتظام صدورها وتعثراتها، ومن تعاقب على رئاسة تحريرها ومن ضمت مجالس تحريرها. وعرض لكتابات الذين جعلوها موضوعًا لدراساتهم، وانتقالها من مجلة حكومية استعمارية إلى مجلة أكاديمية.
توقف الكتاب مليًا بالطبع عند تآليف يُوسُف التي هي واسطة عقد أكاديميته. وسماه مؤسسًا لعلم السُّودان كما تقدم. وهو علم دراسة الهجنة العربية الإسلامية والأفريقية. ومنظور العلم أن السُّودان ليس جسرًا بين العرب وأفريقيا، ولا بوتقة انصهرت فيه عناصر من الطرفين كيفما اتفق. فكانت عبقرية السُّودانيين في “سودنة” الثقافتين.
فعرض الكتاب لطرائق كتابة يُوسُف للتاريخ، ونظر في روافد تكوينه كمؤرخ، والمؤثرات الفكرية عليه، ومرتكزات منهجه الذي استخدمه، وتطبيقاته في دراساته. كما أجال النظر النقدي في المدرسة التاريخية السُّودانية التي خرج يُوسُف من ثناياها. وكشف عن إلمام يُوسُف بمناهج البحث في الأدبيات العربية الإسلامية والمناهج الغربية. وجاء الكتاب غير مسبوق بتأثر يُوسُف بمنهج الحوليات الفرنسية في اختياره لموضوعات ذات مدى زمني طويل توفر للباحث الكشف عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تتم ببطء شديد.
ومن فوق هذه المنصة عاب يُوسُف على المدرسة التاريخية السُّودانية اهتمامها بالتاريخ السياسي الحدثي مما أذهلها عن تفكيك العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجت التحولات التاريخية على المدى الطويل. ومصداقًا لذلك فباكورة إنتاجه الأكاديمي “العرب والسُّودان” بحث في أسلمة السُّودان وتعريبه بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر الميلاديين. وكانت خضعت عمليتا الأسلمة والتعريب التاريخيتان لنظر استشراقي جعل منهما عمليتين مستقلتين بدفع ذاتي محض منبتّتين عن حواضنهما الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية. خلافًا لذلك بحث يُوسُف في تلك الحواضن ليوطن العمليتين في دفع مادي. فلم يترك حبلهما على غارب دفع ذاتي مغلق على التحليل.
ولما استصحب يُوسُف الرواية الشفوية في كتابة التاريخ وتحرير مدوناتها تجده لا يأنف من محاكمة المصادر المكتوبة. فلا تأسره “كهانة” الوثيقة المكتوبة التي اعتنقتها المدرسة التاريخية السُّودانية. فهو لا يعتقد أنها جهيزة التي قطعت قول كل خطيب: لا تاريخ بلا وثائق. فالوثيقة تاريخ كما أنها مصدر تاريخي. فهي إنتاج واع، أو غير واع، لمجتمعات الماضي وترغب مع ذلك في فرض صورة هذا الماضي أكثر من رغبتها في قول الحقيقة.
وساقته حفاوته بالرواية الشفوية لكتابة التاريخ لأريحية فكرية مرموقة. فلما لم تتفق ليُوسُف نسبة الفونج إلى الأمويين لم يطرح هذا النسب كأكذوبة مثل مباحث غيره التي ظلت تفتش في النسب من جهة صدقيته. وبدلًا عن ذلك حفر يُوسُف في تاريخ الفونج الرمزي مستثمرًا نوى تاريخية وميزات ترتبت عليها ليعززوا من صورتهم للآخرين. فاستنقذ يُوسُف النسب من مبضع الموضوعية الكزة: صح أم غلط. وفتح بذلك بابًا في النظر لهوية الفونج أوسع من النسب الذي هو مجرد تزكية أخرى لهذه الهوية.
رغبتُ لو رد الكتاب والد يُوسُف، ناظر المحطة، إلى طبقة العمال لا الأفندية كما فعل. فصح أن عامل السكة حديد يوصف بـ”أفندي” متى بلغ مبلغ ما يسمى خارج الهيئة بمعنى أنه لم يعد عاملًا بعد عمر في الوسط العمالي. ولم يبرحه مع ذلك حتى بعد أن صار أفنديًا. ومتى نسبت يُوسُف للعمال نسبته لتاريخ نقابي استفحل للعمال في الأربعينات، بل ولحياة شبه بادية في تنقله مع والده من موضع في السُّودان لآخر. فأحصيت من المواضع نحو عشر محطات تراوحت من سنار إلى أبي حمد إلى بورتسودان. وتلك رحابة ترعرع الفتى فيها فأخرجته من ضيق القرى. فالسكة الحديد أوسع العوالم الحديثة بعد السُّودان نفسه. وينشأ ناشئ الفتيان في بيئتها على صورة وسيعة للوطن.
وجئت لهذا التحليل لما أفقت يومًا إلى أننا من اجتمعنا يومًا في أنس مع يُوسُف ما بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية جميعًا أولاد نظار محطة ندرس مأثور غير قرانا أو قبيلتنا. وسنقف، متى أدخلنا السكة حديد بصورة قوية في سيرة يُوسُف، على مغزى شموله السُّودان بأسره في استراتيجيته في جمع التراث ونشره. وبلغ من السعة في مطلبه هذا أن كنت طلبت من وفد المقدمة للحركة الشعبية الذي جاء في 2005 ليبشر بالسلام أن يضع زيارة معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية على جدول زياراته. فمتى قاموا بتلك الزيارة رأوا مؤسسة لم تفرق بين شعوب السُّودان. ونشرت لها بلا فرز ما وسعها. وسميت يُوسُف “متنوع ديمة” لما رأيت منه هذه الخصلة في استصحاب التنوع الثقافي للسودان. فلا بدّ لنشأة يُوسُف في أكناف مؤسسة وسعت السُّودان ما استطاعت عائدها على فتى عاش الوطن طولًا وعرضًا.
ربما كان يُوسُف من القلائل في جيله الأكاديمي الذين نأوا عن الحزبية لا السياسة إذا وسعنا من السياسة لتكون الوطنية تاجها. وهو جيل تعاورت عليه نظم ديكتاتورية من كل ألوان الطيف الحزبي وأخذته من “برجه العاجي” إلى دست الحكم وأحزابه الفرد، وكانت النتيجة بائسة. فهجروا ما يعرفون إلى حيث لا يرغب أحد في معرفتهم حيث انتهوا. فلا يملك أحد منهم إلا أن يرعى بقيده في نظم قابضة للحاكم حق النقض (الفيتو). ولا أعرف أن حزنت مثل يوم قرأت لمرتضى أحمد إبراهيم من كتابه “الوزير المتمرد” أن قرارات في جذرية السلم التعليمي وتصفية الإدارة الأهلية في عهد نميري مرت في مجلس الوزراء بلا نأمة مناقشة. فقد اكتشف الوزراء أنه يكفيهم إقناع نميري بخطتهم ليريحهم من دوشة المناقشة أخذًا وردًا.
ولزم يُوسُف “فروة” الأكاديمية. ونثر سياسته الوطنية في سياسات كانت ذؤابتها تعظيم شعائر التنوع الثقافي في تآليفه وتدريسه وخدمته للجامعة والمجتمع. فوجد تمام نفسه وأريحيتها في قيادة وحدة أبحاث السُّودان التي انتدبتها الجامعة لتدوين تراث أمة أخذت في اكتشاف نفسها بعد استعمار كان بعثة تبشيرية ثقافية بمعنى ما. وككل بعثة مثلها افترضت في قرارتها أن “الأهالي” خلاء ثقافي خالف محض. والأصل في مهمة مثل هذه البعثة تجريعهم “غصص” التنوير ليرقوا المراقي من البدائية إلى الحداثة. ولست أدري أن لو كنا حظينا ببركة وحدة أبحاث السُّودان، ومعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية الذي خرج من كنفها، لو عرج يُوسُف مثل كثير غيره لخدمة الأنظمة لا الوطن. أشك في ذلك.
وقفت مليًا عند عبارة أم يُوسُف له وتنبؤ السيدة مريم الميرغنية له. جاء أمه حزينًا لأنه لم يقبل في مدرسة أولية ما. وقال لها: إنهم تجنبوه لربما لأنه قصير القامة. قالت له “القصير بطول”. وقالت له السيدة مريم حين زارها مع أسرته أنه سيكون “صاحب كِتبات كتار”.
وهذا الكتاب الذي بيد القارئ كتاب مرموق بقلم مؤرخ ثبت أعانه اطلاع كثيف على تاريخ السُّودان؛ ليكتب عن مؤرخ هو تاريخ في حد ذاته. فوقف بنا عند “كتب كتار” لمؤرخ طالت بها قامته فتنزل بركة على الأكاديمية السُّودانية والوطن.
ahmedabushouk62@hotmail.com