قبل خمسة عشر عاما، اعتلى صفحات الاخبار مشروع لبناء مستشفى مجاني لعلاج سرطان الأطفال في السودان، إبتدره مجموعة من طلاب الجامعات وتبنته بعض الجهات الرسمية والشعبية، وحظىُّ بحملة واسعة من الصحف وأجهزة الاعلام والاعلاميين والصحفيين أذكر منهم الزميلة متعددة المواهب الشفيفة طيبة القلب المرحومة (نادية عثمان مختار) التي ظلت تطارد المشروع بكتاباتها وبرامجها التلفزيونية حتى لحظة وفاتها في نوفمبر 2013 إثر حادث حركة أليم !
وكنت قد استقبلت في مكتبي بصحيفة (السوداني) عددا من طلاب الجامعات تحدثوا بحماس شديد عن المشروع العظيم الذي حمل اسم مستشفى ( 99199 ) لعلاج سرطان الاطفال، و99199 هو رقم الهاتف المؤقت الذى تبرعت به احدى شركات الاتصالات، وكتبت تحت نفس العنوان عدة مقالات متأثرا بالفكرة العظيمة والحماس الذي اظهره الكثيرون !
مشروع المستشفي (الحلم) شبيه بمستشفي 75357 لعلاج سرطان الاطفال في مصر، الذي كان حلما في الضمير المصري، وتحول الى أكبر مستشفى في أفريقيا، وظل يتنو ويكبر كل يوم ويقدم خدماته للملاييين من ابناء مصر وعددا من الدول من بينها السودان، بعد نشأ وترعرع بفضل تبرعات الشباب وطلاب المدارس والعمال والفنانين ونجوم الغناء والسينما والمسرح، ورجال الاعمال وأهل الخير تحت إشراف السيدة ( سوزان مبارك) عقيلة الرئيس المصري السابق (حسني مبارك). وبدأ بجنيه واحد تبرع به طفل عمره سبعة اعوام لمساعدة في علاج صديقه وزميله في المدرسة الذي اصابه المرض اللعين، والتقط القفاز بعض شباب مصر الى ان تبنته السيدة (سوزان مبارك) وحولت الفكرة من تبرع لانقاذ حياة طفل واحد الى تشييد مستشفي ضخم لعلاج ضحايا المرض من اطفال مصر والدول العربية مجانا، بالاضافة الى التشخيص المبكر وإقامة الدورات التدريبية للكوادر الطبية والمشاركة في إجراء البحوث العلمية.
وساهمت أجهزة الاعلام بكل انواعها، خاصة التلفزيون والإذاعة وشاشات السينما وملاعب الرياضية بحملات ضخمة لحث المواطنين على التبرع لتشييد المستشفى عبر رقم الحساب 75357 بالبنوك المصرية والعربية، وشارك في الحملات نجوم الرياضة والفن والدراما والادباء والعلماء وأساتذة الجامعات والصحفيون وأولياء الأمور والطلاب والفلاحون والعمال وكل قطاعات المواطنين، الفقير منهم قبل الغنى، وما هىَّ إلا شهور قليلة حتى بدأ العمل في المشروع الضخم بعد ان جمعت له ملايين الدولارات والجنيهات وساهمت فيه معظم المؤسسات والشركات والبنوك المصرية الى ان اكتمل وبدأ في تقديم خدماته الكبيرة قبل حوالى عشرين عاما من الآن، ولا تزال التبرعات تنهال عليه حتى اليوم، كما كان ضربة البداية لقيام الكثير من المؤسسات الطبية الأخرى، منها مستشفى الاطفال لعلاج أمراض القلب في مدينة اسوان الذي ابتدره الطبيب المصري العالمي المعروف (مجدي يعقوب)، أول من قام بإجراء عملية نقل قلب ناجحة لمريض في مستشفي (لندن كلينيك) بانجلترا وسجل إسمه في صفحات التاريخ.
قلت في إحدى المقالات، إن شعب السودان يحلم بوجود مشروع مشابه للمستشفي المصري لعلاج اطفال السودان من المرض اللعين الذي بلغ عدد الاطفال دون سن العاشرة الذين توفوا بسببه في عام 2014 وحده 1080 طفلا من الذكور و716 من الاناث، وأكثر من أربعة أضعاف ذلك العدد يعانون من المرض ولا يجدون العلاج المناسب، لعدم وجود المستشفيات المتخصصة والامكانيات الطبية والمال.
وختمته قائلا، ان انقاذ الاطفال المصابين بالمرض وغيرهم في أيدينا نحن بعد الله تعالى، إذا اجتمعت كلمتنا وتوحدت إرادتنا، ونهضت همتنا، ولا أظن أننا اقل همة من غيرنا. وإن شاء الله حنبنيهو، ويتحول الحلم الى واقع باذن الله وارادة شعبنا الأبى الكريم!
وكانت للمشروع هواتف خاصة للاستفسار والتبرع بالمال، كما تأسست له جمعية من عدة شخصيات معروفة باسم (جمعية مستشفى علاج سرطان الاطفال 99199)، بدأت عملها بحماس كبير، جعلنا نتفاءل بقيامه في أسرع وقت، غير أن المشروع للاسف مات وشبع موتا في مخيلة مبتدريه وهى العادة التي جبلنا عليها، حيث اعتدنا على وأد كل الافكار الجميلة، وظللنا نقبع في الحضيض، بينما الذين نتهمهم بالبخل والانانية يفوقوننا حماسة وارادة ويفعلون كل خير لانفسهم وبلادهم .. تخيلوا خمسة عشر عاما مرت منذ ظهور الفكرة، ولم يظهر للمستشفى اى اثر مثل غيره من المشاريع!
لماذا تموت أفكارنا واحلامنا ومشاريعنا وهى في المهد، أم انها الأنانية والتجرد من القيم الانسانية الجميلة وفساد الحياة العامة في بلادنا وأنانيتنا المفرطة وكرهنا لبعضنا البعض وتشرذمنا والادعاء الزائف بالكرم والنخوة وغيرها من الشائعات التي نطلقها على انفسنا، وحنبنيهو والكلام الفارغ ده ؟!