“يا الهاجر جفيتني بنظرة لي ماك عايد ….. شوفتك زي هلال العيد وفيهو بعايد”
الشاعر على المساح
تمر علينا هذه الأيام الذكرى ال 37 لوفاة الفنان رمضان زايد والذي حدثت وفاته في 17/12/1985م ورمضان هو ذلك الفنان الانسان” السوداني” الجميل خفيف الروح والظل، صاحب الضحكة المجلجلة الصادرة من قلب لا يعرف سوى حب الخير والجمال والتي تعقبها كلمته التي اشتهر بها ” خليك مع الزمن ” ومرات يضيف اليها ” دة وقتو؟ “ورمضان زايد فنان اصيل لطالما ادخل البهجة والسرور والفرح في نفوس الناس، وقدم الكثير من الروائع خلال عمره القصير نسبيا (50عام) فنال محبه الجميع ولا تأتى سيرته الا وتجد الناس يترحمون عليه ويذكرونه بكل ما هو جميل!
عندما كان السودان لا يزال بلدا جميلا كبير المساحة وفسيح السماحة، يعيش فيه أبناؤه بكل ود وحب واحترام ينعمون فيه بالعيش الكريم في وطن شامخ يحتضن الجميع بدون فرز! في تلك الأيام الطيبة كان من المألوف والمعتاد ان يتخذ المساعد الطبي زايد جبريل من مدنى الخضراء بلد الحضارة و الفن و الجمال موطنا يعيش فيه وان يتم نقله كما هي طبيعة العمل في القطاع الحكومي الى ملكال عروس جنوب السودان وهناك يتزوج من (نان دينق) خديجة احدى بنات قبيلة الشلك ذات الإرث التاريخي الكبير وتنجب له ابن في العام 1935م ابن يسمونه رمضان و حين يكبر و يدعوه داع الفن يشد الرحال الى الخرطوم فيسكن في العباسية و الموردة و الديم و في الخرطوم الديوم في بحرى ويدخل الإذاعة حيث تتم إجازة صوته في نفس العام الذى اجيز فيه صوت الامبراطور وردى في العام 1957م , وبعدها يملا رمضان الدنيا فنا و غناء فيطرب و يسعد الملايين فيغنى بالعربية الفصحى فيبدع و يؤدى الأغاني الخفيفة الراقصة فيتجلى و يرقص على ايقاعات التم تم فيلقب بملك التم تم ! ويصادق الكابلي ورجل الاعمال خليل عثمان وعبد العزيز داوود والتاج مصطفى ودكتور عوض دكام وحتى ان الرئيس نميري كان من ضمن قائمة المعجبين والأصدقاء لرمضان! كل ذلك كان ممكنا ومعقولا ومنطقيا في ذلك الزمن الجميل، وبالطبع ان الأمور لم تصل الى حد الكمال، ولكن بحكم تسلسل الأمور والتطور المنطقي كانت الأمور في طريقها اليه! اذكر اننا في السبعينيات ونحن في بدايات المرحلة الدراسية الأولى كنا ننشد ونهتف من حناجرنا وقلوبنا قصيدة صديقنا ” منقو زمبيرى ” من جنوب السودان والقصيدة كانت من ضمن مقررات المرحلة الابتدائية القديمة التي كانت تعبر بوضوح عن اشتياق أبناء السودان وحرصهم وتمسكهم بالوحدة الوطنية , وبهذه المناسبة فان منقو زمبيرى كان شخصية حقيقية وهو من منطقة يامبيو بجنوب السودان وكان يعمل مدرسا في بداية الاربعينيات من القرن الماضي في بخت الر ضا وعندما صدر الامر بنقله للعمل في ملكال بكى ى متأثرا بفراق زملائه الشماليين وقال الى متى سوف يظل هؤلاء الناس يعملون على تفريقنا ( يقصد الانجليز الذين كانوا يحكمون السودان في ذلك الوقت) فواساه زميله الأستاذ عبداللطيف عبدالرحمن بنظم القصيدة المشهورة التي يقول فيها :
ﺃﻧﺖ ﺳﻮﺩﺍﻧﻰ ﻭﺳﻮﺩﺍﻧﻰ ﺃﻧﺎ ﺿﻤﻨﺎ ﺍﻟﻮﺍﺩﻯ ﻓﻤﻦ ﻳﻔﺼﻠﻨﺎ
ﻧﺤﻦ ﺭﻭﺣﺎﻥ ﺣﻠﻠﻨﺎ ﺑﺪﻧﺎ ﻣﻨﻘﻮ ﻗﻞ ﻻ ﻋﺎﺵ ﻣﻦ ﻳﻔﺼﻠﻨﺎ
ﻗﻞ ﻣﻌﻰ ﻻ ﻋﺎﺵ ﻣﻦ ﻳﻔﺼﻠﻨﺎ
ولكن خلافا للتمنيات في القصيدة فقد عاش من يفصلنا و يا للأسف فان من فصلنا لم يكن مستعمرا انجليزيا مثل الذي كان يقصده منقو بل كان سودانيا من تراب هذه البلد!! وأصبح أبناء واحفاد صديقنا منقو ينتمون الى بلد اخر يحملون جنسيته! !!، بل ان من فصلنا اظهر الفرحة والسرور بهذا الانفصال الذي سعى اليه وجعله من أولوياته حيث قام ” أحدهم” وهو يعبر عن مشاعر واحاسيس جماعته بهذا الانتصار الساحق والفوز الماحق بذبح ثور “اسود” في هذه المناسبة البئيسة! في إشارة تنضح بالغرور والعنصرية وكل ما هو سئ ورديء!! ولا اشك مطلقا في انه من رحمة الله تعالى ان قبض روح الفنان رمضان زايد قبل ان يرى مثل هذا اليوم الاغبر الكئيب!!
هذا الانفصال يدل دلالة واضحة على نهاية حلم دولة السودان المتعددة الأعراق والثقافات والمعتقدات، وكان السودان مرشحا ان يصبح امة ألوان قوس قزح south Africa rainbow وهو الشعار الذي تتبناه وتفخر به دولة جنوب افريقيا! ولكن ماذا نفعل والسودان أصبح خير مثال للامة ذات البدايات التي دمرها اباؤها بأيديهم، واذكر جيدا في سنوات السبعينيات من القرن الماضي وكان منزلنا يقع في احد الشوارع المؤدية الى المنطقة الصناعية في مدينة بحرى وما ادراك ما المنطقة الصناعية في م بحرى في ذلك الوقت اذ كانت فعلا مدينة صناعية تعج بالعشرات من المصانع التي لا يتوقف هديرها و لا تسكن حركتها نهارا و ليلا و تنتج للسودان وبعض الدول المجاورة مجموعة كبيرة جدا من السلع و البضائع من المنسوجات و الاقمشة و الملابس و الأحذية و الكيماويات مرورا بالزيوت و الصابون و المشروبات الغازية العصائر و الحلويات , واذكر باننا كنا نكاد نطير فرحا و فخرا عندما تقع فا أيدينا بعض المنتجات التي تكتب على غلافها made in Sudan وكنا نحلم بانه سوف يجئ يوما ما ونقرا هذه العبارة في السيارات و الطائرات و الدبابات المصنوعة في السودان نعم انها كانت أحلام صغار ولكنها أحلام بوطن شامخ و امة عظيمة . هذه المصانع كانت تستوعب اعداد كبيرة جدا من جميع أبناء السودان شماله وشرقه وغربه وجنوبه الذين كانوا يعملون سوية في هذه المصانع وكنا نشاهدهم ومنذ الصباح الباكر وهم في طريقهم الى العمل البعض منهم على دراجات والبعض على متن الحافلات الخاصة والبعض يسيرون على اقدامهم في لوحة بديعة جميلة وكان الجميع سعداء راضون بأعمالهم ومصدر رزقهم الذي يضمن لهم الحياة الكريمة لهم ولعائلاتهم، وفى ذلك الوقت لم يكن من المألوف للسودانيين السفر والاغتراب من اجل لقمة العيش!! كما كانت هذه الصناعات متوقع لها ان تتطور ويدخل السودان مرحلة الصناعات الثقيلة ويصبح بلد صناعي له وزنه في المنطقة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن!!
تقول السيرة الذاتية للفنان رمضان زايد جبريل بانه قد ولد في حي الشاطئ (الملكية) مدينة ملكال في العام 1935م والده هو المساعد الطبي زايد جبريل من أبناء تقلى العباسية وقدم الى ملكال من وطنه مدينة مدني ووالدته هي نان دينق (خديجة) من الشلك، وكما هو معروف بان قبيلة الشلك هي واحدة من المكونات الرئيسية الثلاث لقبائل جنوب السودان الى جانب الدينكا و النوير و لديها رصيد ضخم و تقاليد قديمة و راسخة في الموسيقى و الرقص , فالرقص لديهم ليس من اجل المتعة و الترفيه بل هو جزء مهمم و مكمل لحياتهم فهم يغنون و يرقصون تقريبا في كل المناسبات ( الميلاد و الزواج و الوفاة ,) ومن المؤكد بان حب رمضان زايد و ميله للحركة و الرقص كانت نتاج طبيعي لهذه البيئة التي ولد و ترعرع فيها . ويقال بان رمضان زايد كان مشاركا نشطا في الغناء والرقص الرقص مشاركاته وامتدت الى حفلات الدينكا و النوير التي كانت تقام في المدينة الجميلة ملكال , و حى الملكية كان له نصيب أيضا في أغاني السيرة و الدلوكة والتي تشرب بها منذ ذلك الوقت لينميها و تكبر داخله ويعرضها الى الناس بعد ذلك فيستحق عن جدارة لقب ” ملك التم تم ” وفى المدرسة الابتدائية ظهرت باكرا موهبة رمضان في الغناء و الموسيقى و التمثيل اذ انه كان متفوقا في الأنشطة المدرسية و يقال بأنه كان محبوبا و ذو شعبية لدى اساتذته و زملائه ويحكى بان ناظر المدرسة الأستاذ صادق عبدالرحمن كان يحبه جدا و يخصه بالرعاية و الاهتمام متوقعا له مستقبلا باهرا و مشرقا . وبعدها شد الرحال الى الخرطوم نتيجة لتوصية أصدقائه والمقربين منه بان هذه الموهبة لابد لها من السطوع في الخرطوم ليستمتع ويستفيد منها كل أبناء السودان عبر إذاعة ام درمان والتي كانت تمثل بوابة العبور الى عالم الشهرة والانتشار على المستوى القومي
ونواصل
amirrshahin@gmail.com