أطل الرئيس المخلوع قبل بضعة أيام على منصة جلسات المحكمة المنعقدة منذ سنتين لمحاكمة مدبري انقلاب الثلاثين من يونيو، الذي خططت له ونفّذته مجموعة من المدنيين الجبهويين، وبعض ضباط المؤسسة العسكرية الذين يدينون بالولاء لحزب الجبهة الاسلامية، فهو انقلاب مدني – عسكري تعود مسؤوليته الحصرية للحزب الجبهوي الإسلاموي، ولا مجال للتسويف والاسفاف واللف والدوران حول غلوطية الدكتاتور، الذي بدا واضحاً من محاولته اليائسة تبني تبعات ذلك السطو المسلح والغاشم على السلطة الشرعية المنتخبة آنذاك، وتقويض التجربة الديمقراطية الثالثة بعد استقلال البلاد، ويكفينا دليلاً على مسؤولية الاسلامويين في ارتكاب الجريمة الدستورية البشعة، ذلكم الحديث الموثّق لعرّاب الحزب الانقلابي الراحل الدكتور حسن عبدالله الترابي، الذي أقر بعظمة لسانه أنهم كتنظيم سياسي نظموا ورتبوا ونفّذوا انقلابهم المشؤوم على الشرعية الدستورية، وما هذه المسرحية السمجة التي عرضها الدكتاتور المخلوع إلّا (لعب عيال) لا ينطلي على طالب حديث بكلية القانون، فوزر الخطيئة يتحمله المدنيون والعسكريون من هذا الحزب الذي جر البلاد لأتون حروب أهلية بالجنوب والشرق والغرب، وأسهم بقدر كبير في فصل جنوب الوطن عن شماله جراء هذا العمل غير الطيب.
مما يؤسف له حقاً أن الثلاثين سنة التي قضاها الدكتاتور في الحكم، كانت كفيلة بتداول كرسي السلطة بين عدد ست حكومات منتخبة عبر صندوق الاقتراع، باعتبار مدة الدورة الرئاسية الواحدة خمس سنين، وهذه التداولات الست السلمية جديرة بأن توطّن الديمقراطية المستدامة، في هذا القطر الأفريقي الذي (كان) يشغل مساحة أكبر دولة بالقارة، لكن طائر شؤم الجبهة الاسلامية أبى إلّا وأن يهبط على كتف رجل إفريقيا العظيم، فجاءت النكبات الوطنية تلو النكبات، وحوصرت البلاد حصاراً اقتصادياً قاسياً من الغرب الممسك بأنابيب أوكسيجين إدارة المال العالمي، جزاءًا على جرم الإرهاب الدولي الذي جرّه سفهاء حزب الترابي، الذين لا يتناهون عن منكر يفعلونه، فلوّثوا صفحة البلاد البيضاء التي كانت خالية من السوء، باستضافة الإرهابيين الوالغين في دماء أبرياء المعمورة، كل هذه الفوضى المافيوية تعود أسبابها ومسبباتها إلى ليلة سرقة سلطة الشعب في الثلاثين من يونيو، من العام الخاتم للعشرية القبل الأخيرة من القرن السالف، فهي جريمة منظمة بمنهاجية أعقد مما جادت به قريحة بابلو سكوبار زعيم عصابات المافيا اللاتينية، ولو أردت أن تعد وتحصي جرائم وضحايا مأساة الحكم الجبهوي الإسلاموي العسكري، فإن صفحات الكتب لا تقوى على كثافة الحبر المدلوق والراصد لهذه العملية الإحصائية.
محاكمة القرن – محاكمة مدبري انقلاب الثلاثين من يونيو – لها إلزام أخلاقي وثوري عاجل يلزم قضاة المحكمة وهيئاتها، بأن يستكملوا إجراءاتها التي لابد وأن توصل القتلة الذين سفكوا دماء الشعب المسالم لسلاسل المقاصل وحبال المشانق، أولئك المجرمون الذين دشنوا مبتدأ رحلة حكومتهم الإجرامية بدق مسمار على رأس طبيب، وختموا مسيرة حياتهم الدموية بحشر خازوق في دبر مُعلّم، فهؤلاء لن يشفع لهم كبيرهم الذي علمهم السحر بمحاولاته اليائسة لتبني حمل أثقال الجرم الثقيل لوحده، فلا مفر من أن يؤخذ في الاعتبار الشهادات والإفادات الواثقة والموثّقة لبعض العسكريين منهم، أمثال اللواء ابراهيم نايل إيدام، وهو من الذين ترجلوا باكراً عن قطار الموت المحمّل بالجثث والجماجم والأشلاء، كذلك يحتم الواجب القضائي والعدلي أن يتم ضبط واحضار واستجواب الطيارين العسكريين الذين قادوا طائرات الموت، وأسقطوا حمم براميل الانتونوف على رؤوس الأطفال والنساء، وعلى بطون العجزة والشيوخ في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ومن هذا المنبر يقع على عاتقنا واجب الدعاء بالرحمة والغفران للقانوني والمحامي الضليع الأستاذ علي محمود حسنين، مهندس مشروع محاكمة مدبري انقلاب الثلاثين من يونيو الذي أخّر البلاد وأعاد العباد لعصر الظلام.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
24 ديسمبر 2022