لقد اطلعت على بيان صادر أمس، جاء في نصه أن المؤتمرين في مؤتمر لـ”الحركة الشعبية لتحرير السودان” بجبال النوبة قد ضمًنوا حق تقرير المصير كحل نهائي لمعالجة المشكلة السياسية التي تعاني منها المنطقة.
لكن مهما كُتبت من بيانات تحمل نصوصاً بأن المؤتمرين خرجوا باعتماد حق تقرير المصير كحل نهائي للمشكلة في جبال النوبة، إلا أن موقفنا سيظل ثابتاً دون تغيير، فتقرير المصير والانفصال وتأسيس دولة جديدة ليس هو الغاية والجنة التي يجب أن تلهف قلوبنا نحو تحقيقها! وليس هو الحل الوحيد العادل لتلبية طموحات وتطلعات شعبنا في جبال النوبة أو جنوب كردفان.
اذا تركنا كل التعقيدات الإثنية والاجرائية حوله ( تقرير المصير) وتجاوزنا واقع المنطقة، وذهبنا لمناقشته كآلية يعتقد البعض عدالتها لحسم الصراع، نجد أنها تحمل مشاكل كبيرة يتغاضى عن مناقشتها من يروجون لها حالياً.
مثلا إذا نظرنا للوراء في خلفية تاريخية سريعة، نجد أن الحديث عن تقرير المصير برز في السياسة الدولية، وضُمن في أضابير الأمم المتحدة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي بعد انهيار منظمة عصبة الأمم ،بعد أن انسحبت أمريكا منها، وبغض النظر عن الجدال حول أسباب تضمينه (لتفكيك الاتحاد السوفيتي) أو لوقف وانحسار التمدد الأوروبي في إفريقيا أو من أجل مصلحة الشعوب، وجُمًل ذلك بعبارات الديمقراطية كزينة دائمة للسياسات الامريكية الخارجية، وكذلك بعد تطبيقه أو ممارسته في المستعمرات الإفريقية وغيرها، حيث نتج عن ذلك نيلها للاستقلال أو الانفصال وتأسيس دول جديدة.
في افريقيا خصوصاً نجد أن تلك الممارسات لم تقد نحو تحقيق طموحات وأشواق الجماهير المناضلة، والتي كانت ترى بأن مجرد الاستقلال يعني انتفاء الممارسات السابقة، التي سبقت حقبة ممارسة حق تقرير المصير والانفصال، ولكن التجربة أثبتت أن تلك الشعوب أصيبت بخيبة أمل كبيرة بعد أن استقلت وانفصلت، لم يحنًوا للمستعمر ولكن أغلب الدول الوليدة التي ولدت بعد نضال وتضحيات ومعاناة أصبحت ملكية خاصة للنخب والقادة الذين قادوا تلك الشعوب وناضلوا معها لممارسة تلك الحقوق، وكانوا صوروا للشعوب أن الحل يكمن في مجرد الاستقلال والانفصال، وأن المشكلة تكمن في المستعمر فقط، وذهبت الشعوب خلف الأشواق المحاطة بالثقة المفرطة، ولم يتمهلوا لمناقشة شكل الدولة التي يريدونها كشرط سابق قبل تنفيذه، وكيف يمكن لهم أن يجعلوا ذلك ملبياً لتطلعات العدالة والمساواة والحرية والمواطنة المتساوية، ويمنعوا الأسباب التي سوف تجعل الجديد قادماً بنفس صفات القديم، وقد وثقوا في قادتهم ولم يتخيلوا أن يكون بينهم الفاسد والمستبد والديكتاتور، انخدعوا وساروا خلف الشعارات فقط دون إيجاد آليات لتحويلها لواقع.
قادة الثورة والتحرير، حوًلوا بعد التحرير حياة شعوبهم إلى جحيم أشد إيلاماً من سلطات الاستعمار نفسها، وأصبحت الدولة حظوة في يد صفوة وأقارب القادة فقط، ظلت الممارسات القديمة في محلها ،فقط استبدلت الأشكال او الأشخاص، فالمستعمر الأجنبي القديم ذهب وترك الاستعمار بوسائله وآلياته نفسها لمستعمر جديد وطني، بل عاد القادة أنفسهم وتحالفوا مع مستعمريهم سابقاً بشكل جديد، وأصبحت تلك الدول في حاجة للتحرير من قادة التحرير أنفسهم.
هذا لا يعني تأييدنا المستعمر الأجنبي أو الوطني ولممارساتهم، ولكننا نرى أن طرح واعتماد تقرير المصير كحل نهائي ووحيد دون معالجة الأسباب الحقيقية والموضوعية التي قادت تلك الشعوب للنضال هو ترحيل للمشاكل فقط، والتي ستؤدي إلى الفشل والحسرة والندم لاحقاً.
فالنضال ليس من أجل إيجاد دولة جديدة فقط دون شرط (شيك على بياض)، ولو كان الأمر كذلك، فالدولة موجودة حالياً، لماذا نسعى الي الحصول على شي موجود، أما النضال لأن الدولة الموجودة حالياً لا تعبر عنا، فهي دولة عنصرية، دولة صفوة وحظوة صغيرة، دولة حرب وفقر واستغلال واستبداد وظلم، دولة فاسدة وفاشلة! ليست في نفسها ولكن في ممارسات حكامها وطنيين كانوا أو مستعمرين.
النضال والتضحيات من أجل إعادة توزيع السلطة والثروة والموارد بعدالة وتحويل الفشل لنجاح والاستغلال الي استقلال والاستبداد لحريات والفساد الي شفافية ومحاسبة ومسؤولية والفقر الي رخاء والحرب الي سلام واستقرار والعنصرية الي مواطنة متساوية، هذه هي القيم التي كان وسيظل النضال من أجلها.
لو يعتقد البعض أن النضال من أجل ميلاد دولة جديدة، نتساءل: عن ما هو الضمان أننا سوف لن نقوم بتأسيس الدولة نفسها التي ناضلنا ضدها، و وما ضمان عدم انتاج دولة تحمل جيناتها؟ هل تريدوننا أن ننقاد معصوبي العينين للاستقلال، ونكتشف لاحقاً إن الأمس مثل اليوم! وأننا استبدلنا السيد بسيد آخر، وبعد ذلك هل سنرضى بسيادتهم، لأننا أوجدناهم بأنفسنا وبمحض إرادتنا؟ أم سنناضل مرة أخرى من أجل القيم أعلاه أو لتقسيم المقسم إن جاز التعبير؟
التجارب أعزائي كثيرة من حولنا، والظلم والاستبداد ليس له لون، فلننظر للدول التي جاءت بعد نضال مسلح مثل إريتريا وجنوب السودان من حولنا ونقول (العاقل من اتعظ بغيره)، يجب علينا مناقشة الأسباب الجوهرية التي جعلت تلك الدول تنزلق إلى إعادة تدوير وممارسة الصفات السيئة، التي أشرت إليها، ضد شعوبها.
نحن لا نريد أن نكون (فيران معامل) جدد، تُجرب فينا المشاريع السياسية الفاشلة دون حتى أجواء مناقشة حرة وديمقراطية، لبحث أسباب فشلها.
أخيراً تظل دولة العدالة والحرية والديمقراطية والمواطنة والفرص المتساوية والمتكافئة هي الهدف والمطلب والغاية، ولأجل ذلك سنناضل، وسنعمل مع كل الحريصين من أجل إيجادها، فدولة الخرطوم (ماعاجبانا) وخيار تقرير المصير ليس خيارنا.
* الكاتب: الناطق باسم الحركة الشعبية – شمال” ( قيادة مالك عقار)