مثلما شكل (إعلان بكين) في 10 مارس 2023 تطورا نوعيا لافتا في مسار العلاقات السعودية الإيرانية ، بعدما أعلنت الرياض وطهران استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد سنوات من القطيعة والتوتر الشديد ، فان زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى طهران(أمس 17 يونيو 2023 )عكست تجسيدا عمليا لهذا التطور الايجابي في منطقة الخليج .
تفاعلات محادثات رئيس الدبلوماسية السعودية مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، ولقائه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي رسمت خارطة تطورات تؤكد سعي قيادتي البلدين إلى طي صفحات خلافات حادة ضربت علاقاتهما ومصالحهما المشتركة ، وأوضحت دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزير التي حملها الوزير السعودي إلى الرئيس الإيراني لزيارة المملكة أبعاد التطورات المتسارعة في علاقة بلدين مؤثرين، إقليميا ودوليا، سياسيا ونفطيا.
مجريات الأحداث جددت التأكيد أن السياسة السعودية الجديدة تتسم بنبض المبادرة والمساهمة في صنع الأحداث، لا الجلوس على رصيفها ، وهذه سياسة -كما أشرت في مقال سابق – تختلف أختلافا جذريا عن سياسات قديمة سادت خلال سنوات مضت.
الرياض التي ترتبط بعلاقات شراكة وتحالف قوية مع أميركا وقعت في الصين بيان استئناف علاقاتها مع إيران ، وهاهي زيارة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان إلى باريس ( 14 يونيو 2023) ومحادثاته مع الرئيس ايمانويل ماكرون تعزز الشراكة، وهي الزيارة الثانية إذ كانت الأولى في العام 2022 ، كما سيشارك في باريس في 22 يونيو 2023 في قمة ( من أجل ميثاق مالي عالمي جديد ) وهذا كله يعكس الحراك الحيوي والمتواصل للسياسة والدبلوماسية السعودية .
من سمات دبلوماسية الرياض الجديدة أن محادثات وزير الخارجية السعودي في إيران إتسمت ب ( الوضوح ) وفقا لتأكيداته في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني ، وأرى أن الشفافية والصراحة مرتكزان مهمان لمناقشة وتشخيص القضايا والمشكلات التي تتسبب في تأزيم العلاقات بين دول في المنطقة.
أشير إلى أن علاقات قطر وإيران كانت وما زالت هي الأكثر استقرارا و تميزا مع طهران منذ سنوات لأسباب عدة ، بينها أن سياسة قطر الخارجية دعت منذ سنوات واستمرت تدعو إلى فتح قنوات حوار بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران لحل الأزمات، وجلبت هذه السياسة متاعب كثيرة للدوحة.
من مظاهر لغة التفاؤل و(الوضوح) في تأكيدات الأمير فيصل في طهران أنه وصف محادثاته في إيران ب ( الإيجابية) و شدد في الوقت نفسه على نقاط مهمة في صدارتها أن (العلاقات الطبيعية) بين البلدين ( هي الأصل).
هذا يعني أن السعودية اختارت في هذه المرحلة سياسية خارجية تصب في مجرى التعامل بمرونة وبعد نظر مع حقائق التاريخ والجغرافيا، فهل تتخذ إيران سياسات تزيل القلق والمخاوف والتحديات ليس في التعامل مع السعودية وحدها بل مع دول في المنطقة والعالم ؟ .
وزير الخارجية السعودي تحدث للصحافيين وبجواره الوزير الإيراني عن مرتكزات رؤية المملكة للعلاقات مع إيران مشددا على ضرورة أن (تقوم العلاقات على أساس واضح من الإحترام الكامل والمتبادل والإستقلال والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وفقا لمباديء القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي ) وشكل موضوع خلو المنطقة من أسلحة الدمار الشامل عنوانا مهما للأولويات السعودية.
كلام الوزير السعودي عن مرنكزات العلاقة مع إيران ينسجم مع مضمون بيان (إعلان بكين) بشأن إستئناف العلاقات مع طهران، إذ تضمن النقاط نفسها، وكان الاتفاق نص أيضا على (تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة 2001 وأخرى في العام 1998 في مجالات التعاون الاقتصادي والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب).
تشخيص علاقات الدول التي تشهد عمليات شد وجذب كالعلاقات السعودية الإيرانية يحتاج إلى مثل هذه الشفافية، كي يتم تجنب النكسات وعودة الأزمات، سواء تحت تأثير مستجدات ومتغيرات محلية في هذا البلد أو ذاك ، أو بفعل أصابع إقليمية أو دولية تسعى لتحقيق مصالحها على حساب مصالح السعودية وإيران ودول الخليج والمنطقة بشكل عام. هذا يعني أن زيارة رئيس الدبلوماسية السعودية إلى طهران وهي الأولى منذ 11 عاما ونتائج محادثاته تحتاج أن يُبنى عليها بخطوات واثقة ومتبادلة من الدولتين ، لبناء الثقة ، وهي تحتاج إلى دعم خليجي وإقليمي ودولي، لأن مصالح العالم متداخلة .
في هذا الإطار شكل ترحيب الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيرش بخطوة استئناف العلاقات السعودية الإيرانية دعما مهما من المنظمة الدولية ، وكان أعلن وفقا للمتحدث باسمه ستيفان دوجاريك (استعداده بذل مساعيه الحميدة لتعزيز الحوار الإقليمي وضمان الأمن والسلام في منطقة الخليج) .
هذا معناه أن العلاقات الطبيعية بين السعودية وإيران تصب في مصلحة البلدين ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية والإسلامية والمنظمة الدولية ودول في العالم تحترم خيارات الشعوب، وهناك ايضا متضررون كبار من مسار هذه العلاقات.
أذكر أنني قلت في تاريخ قديم في حوار إذاعي خلال فترة عملي صحافيا في قطر خلال أزمة شديدة بين أميركا وإيران وتهديدات بالحرب أن أميركا لن تشن حربا على طهران في تلك المرحلة، وأن حقائق التاريخ والجغرافيا في منطقة الخليج ستفرض وجودها بقوة وستنتصر للعلاقات بين دول المنطقة طال الزمن أو قصر، وأن بديل التفاهمات هو الخراب والدمار، وهذا يضرب مصالح دول كبرى في مقدمتها الولايات المتحدة ،التي تحرص على مصالحها الاقتصادية والأمنية في دول الخليج العربية.
حقائق التاريخ والجغرافيا تؤكد أيضا أن العراق كان وسيبقى دولة مهمة وحيوبة في المنطقة الخليجية ، وأن هناك ضرورات ملحة لدعمه سياسيا واقتصاديا وأمنيا كي يستقر ، ففي قوة واستقرار العراق قوة للخليجيين والعرب، كما أن العراق بتاريخه وموارده ومصادر قوته وفي صدارتها الإنسان يستحق المؤازرة وتعميق التعاون.
من الدوحة أطلت مبادرة وجاء تحرك قيادي بدلالات إيجابية … في خطوة لافتة زار أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بغداد قبل أيام (15 يونيو 2023) وتعد الأولى من نوعها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق والخليج ،وهي الأولى بعد تشكيل حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وعكست وعيا بضرورات تعزيز الصلات ودعم العراق، وجرى توقيع عدد من اتفاقات التعاون ومذكرات التفاهم، شملت النقل الجوي والبحري والبنية التحتية والساحة والصحة وإلغاء تأشيرات دبلوماسيي البلدين، كما أعلنت الدوحة استثمار 5 مليارات دولار في العراق خلال السنوات المقبلة.
الارتياح العراقي لنتائج الزيارة بدا واضحا، إذ قال رئيس الوزراء العراقي إن (قطر ستبقى من أقوى حلفائنا وشركائنا في المنطقة، كما أنها لا تزال مثالا رائدا للكيفية التي يمكن الحفاظ بها على صناعة مستدامة في الطاقة).
الحراك السياسي والدبلوماسي السعودي والقطري تتواصل إيقاعاته في المنطقة الخليجية والعربية والعالم ، خصوصا بعدما عاد الدفء إلى العلاقات السعودية القطرية، واختفى التوتر والشد والجذب بين الرياض والدوحة بعد سنوات من ( الحصار والقطيعة) .
المأمول في هذا السياق أيضا أن تنعكس العلاقات الجديدة بين الرياض وطهران على الأوضاع في اليمن ، لانجاح الجهود الهادفة لأنهاء الحرب المدمرة التي احالت حياة اليمنيين إلى جحيم، فالشعب اليمني العريق بريادته التاريخية والحضارية يستحق وقفة سعودية وخليجية ودولية قوية لاسكات الحرب ومداواة الجراح وإعادة الإعمار، ففي استقرار اليمن وأمنه وعودة الحياة الطبيعية يكمن أيضا استقرار دول مجلس التعاون الخليجي و دول المنطقة والعالم ، لأن المصالح متبادلة.
المأمول أيضا أن تنعكس العلاقات السعودية الإيرانية الجديدة إيجابا على الوضع المحتقن في لبنان، فالشعب اللبناني يعاني بشدة حاليا من أزمات معيشية صعبة وقد باتت حياة الناس مريرة وقاسية ، كما يعاني من صراعات شديدة بين قواه السياسية ، يعكسها على سبيل المثال فراغ كرسي الرئاسة .
الشعب اللبناني المبدع يستحق أيضا دعما كبيرا من دول الخليج والعرب والعالم ، ففي استقرار لبنان استقرار للمنطقة والعالم، وأعتقد بأن مسارات الأحداث في اليمن ولبنان ستكشف إلى أي مدي سيساهم دفء العلاقات السعودية الإيرانية في تهدئة ومعالجة أزمات طاحنة في صنعاء وبيروت.
السودان في قلب الأولويات السعودية حاليا من خلال الشراكة مع واشنطن في سبيل التوصل إلى ( هدنات ) في اجتماعات جدة بمشاركة غير مباشرة بين ممثلي ( القوات المسلحة السودانية) و( قوات الدعم السريع) ثم السعي إلى وقف الحرب مع التركيز أولا على العون الإنساني و حقوق الشعب في حرية الحركة و حياة آمنة كريمة ، ويجيء إعلان الرياض تنظيم مؤتمر دولي دولي غدا ( 19 يونيو 2023) في جنيف لدعم (لاستجابة الإنسانية في السودان ) تعبيرا عن سمات السياسة والدبلوماسية السعودية الجديدة التي تبادر وتصنع التحولات .
المؤتمر الدولي بشأن دعم السودانيين يعكس أدوارا ايجابية لدول تشارك في تنظيمه وهي قطر ومصر وألمانيا والإتحاد الأوروبي ووكالات دولية، وفي هذا الإطار أشير إلى أن مصر كعادتها تفتح قلبها لاحتضان السودانيين ، وقد احتضنت آلاف الموجوعين المقهورين في زمن الحرب، وهي تستحق كل التقدير والإشادة لموقفها الإنساني الأخوي، كما أحيي باحترام وتقدير كل الدول التي احتضنت سودانيين وقامت بنقل أعداد كبيرة من حملة (الإقامات) وغيرهم من السودان إلى ربوعها في ظروف صعبة وقاسية ، هذا الدور إنساني و يحترم حقوق الإنسان السوداني.
قيادات الدول القادرة على صنع التحولات الإيجابية لمصلحة شعوبها والمنطقة والعالم وأيضا مراجعة السياسات القديمة وتصويب مساراتها ترسل رسائل مهمة لشعوبها ودول المنطقة والعالم ، وبينها رسائل ساخنة ومهمة إلى قيادات تصنع الحرب والدمار وأجواء الإقتتال وتشريد المواطنين من بيوتهم وتسلبهم ممتلكاتهم وتقتلهم بالطائرات والمدافع وكل أنواع الأسلحة كما هو الحال حاليا في السودان.
من يصنع الايجابيات دعما لحق الشعوب في الأمن والإستقرار والعيش الكريم يستحق التحية والتقدير ، أما نصيب مَن يصنعون الأزمات و يشعلون الحرب ويغذونها بأساليب عدة، ويسفكون الدماء بدم بارد ،في أي مكان في العالم ، وبينها السودان حاليا ، فهو الإدانة والتنديد المستحق ، وتهديدات الملاحقة الدولية القانونية، ولعنة التاريخ .