( اكون كضاب لو اترددت شان استقبلك جواي و لو قاومت حد السيف بريقو يلخبط الهداي صحيح قبلك شراع الدهشة ما صفق و لا كان العرق وداي دي حتي الاغنيات قبلك حروف ابياتا كانت ساي) عبد العزيز عبد الرحمن العميري ـ ذلك العصفور المسمي مجازا العميري ـ كما قال الشاعر ازهري الحاج ، طاقة فنية متعددة الجوانب ،قلق دائم يبحث عن جناحين يحلق بهما في سماء الحرية بين شفافية الروح و حصار الراهن اليومي ، ممثل متمرد علي الثوابت ، علي الاكلشيهات ، شاعر صاحب ذائقة خاصة ، ضجة من الصور الشعرية ، طاقة درامية تعرف كيف تتقمص الدور ( في نواصي الليل نشدتك اقصي حته من السكون) الاحد الخامس و العشرون من يونيو العام التاسع و الثمانين من القرن المنصرم ، الاحد الذي سبق موته ، كان العميري يتجول داخل الاستديو ، استديو التلفزيون ، ليسجل اول حلقة في برنامج جديد و كان قد نجح يومها ان يسجن (ثنائي النغم) داخل الاستديو بعد غيبة غنائية طويلة ، تري كيف خطرت ببالك تلك الفكرة ايها المشاكس ؟ ، فكرة ان تجمع الثنائيات الغنائية ، تعطل التسجيل و تم تأجيله الي الاحد القادم ـ لكن ـ كان العميري قد ذهب الي حيث لا رجعة مودعا صناعة الافكار الجميلة في مايو من العام الثالث و التسعين ، امام شجرة اللبخ التي تجمل مدخل المسرح القومي سلطنا كاميرا التلفزيون علي خضرتها الداكنة من اعلي و تحركت الكاميرا الي شجرة لبخ اخري كانت قد تعرت من خضرتها و اعلنت يباسها فبدت عجفاء لا توحي بغير الموت ، عندها بدأت حديثي عن العميري في برنامجي المخصص لذكراه ، تحدثت نادية احمد بابكر ، حسبو محمد عبد الله ، خالد جاه الرسول صاحب بوفيه المسرح القومي هرب من الكاميرا ،من حزنه العميق تجاه هذا الفقد ، اوقفنا عدد من المارة في شارع النيل ، سألناهم عن عميري كنت احلم بتقديم سهرة تلفزيونية عن العميري ، كنت احلم. داخل استديو اسماعيل الازهري بالاذاعة او استديو ـ الف ـ ، دارت اشرطة التسجيل داخل المكنات ، التقطنا مسامع درامية فيها ذلك الصوت العميق ، التقطت الكاميرا دوران الاشرطة ، ومن داخل الاستديو كان خطاب حسن احمد يحاول ان يحرض ذاكرته و بحزن خاص ، محمد عبد الرحيم قرني يتحدث عن العميري و متأكد ، متأكد تماما من وجوده الحي في الخواطر الجميلة ، في الغناء العذب ، في البحث عن نكتة ،في اشهار الامكانيات الجمالية ضد القبح و اعلن قرني اعجابه الشديد بروح العميري الساخرة و المتأملة ، محمد السني دفع الله يتحدث عن ( شريط كراب الاخير ) تلك المسرحية التي تخرج بها العميري في المعهد العالي للموسيقي و المسرح من تاليف الكاتب العالمي صموئيل بيكيت ، هكذا دائما العميري يميل الي حيث التضاد ، لم ينس السني ان يتحدث و بعذوبة عن عشق العميري للمدن ، مصطفي احمد الخليفة اقتحم الاستديو و نثر تلقائيته المميزة علي الجميع ، كانت محطة التلفزيون الاهلية قد اعلنت عن ملامح كوميديا جديدة فجرها ذلك الجيل ، من داخل الاستديو كان المخرج الاذاعي معتصم فضل يتحدث عن العميري ، خارج الاستديو المخرج الاذاعي صلاح الدين الفاضل يتداعي الي درجة البكاء امام الكاميرا ، تذكرت ان محمد نعيم سعد لم يحضر و ان الرشيد احمد عيسي متوقع حضوره ، حرضت الكاميرا علي النيل ، قذفنا علي موج النيل بعض الحجارة بحثا عن تلك الدوائر المائية التي تكثف معني الزمن. في استديو التلفزيون تحدث المخرج فاروق سليمان عن العميري ، تحدث المخرج عصام الصائغ ، في ابروف كانت منيرة عبد الرحمن العميري ـ شقيقته ـ تعجز امام الكاميرا ، تعجز عن ان تحكي نكتة من نكات عميري ، في الحتانه ابو عركي البخيت تتجاذبه الذكريات و عفاف الصادق لا تستطيع الحديث عن عميري ، و نحن نتاكد من التسجيل داخل الاستديو ، احسست بفقد حقيقي حين غني عركي هذا المطلع من اشعار عميري ( فصلي التيبان مرايل لي طفل قاسي العيون و ابقي قدر الدمعة دي و نوحي في الجنب الحنون) حين كان معي اﻻخ المخرج التلفزيوني شكرالله خلف الله داخل مكتبة التلفزيون نحاول ان نجمع ارقام الشرائط التي تحوي روح العميري داخلها كان هنالك همس حول هذه السهرة ، تحول الهمس الي وسواس و اتفق علي مشاهدة مواد هذه السهرة و يبدو ان الاتفاق كان سريا للغاية و حين بدأنا نجهز للمونتاج فقدنا بعض الاشرطة التي كنا قد اودعناها المكتبة ، في بحثي عن الحقيقة تلك التي دائما تكون في التلفزيون بين القيل و القال عرفت ان شخصية مهمة في التلفزيون قد اخذ هذه الاشرطة و انكر ذلك ، هكذا اخطبوط من العراقيل ، متاريس للقبح ، كنت اتحدث في هذه السهرة المعتدي عليها عن ان العميري هو تلك الحيوية ، حيوية الروح ، انه ذلك الشفاف ، وجود في الذاكرة ، حضور في الوجدان و في ختام السهرة قرأت هذا المقطع من شعر العميري (اديني سمعك في الاخير انا عمري ما فاضل كتير شالوهو مني الامنيات الضايعة في الوهم الكبير و الدنيا ما تمت هناء لسه فاضل ناس تعاشر وناس تضوق طعم الهناء بكرة اجمل من ظروفنا و لسه جايات المني) كنت اتحدث عن هذا التفاؤل المعترف بالموت ، تفاؤل يصر علي ان الحياة لا تتوقف كما ان الموت لايتوقف ، سمعت بعد ذلك ان السبب الاساسي في اعدام هذه السهرة هو هذه الجملة الشعرية (بكرة اجمل من ظروفنا) العميري يعرف كيف تكون السخرية عميقة ، يبحث دائما عن الضحكة و حين لا يجدها يتعب و لكنه لايعدم حيلة في ان يخترعها ، يعرف كيف يمارس الحياة ، ممارسة الحياة تحتاج الي بصيرة نافذة تعرف كيف تنسجم مع التناقضات ، كتلة من النشاط و الحيوية ، لايعرف فراغ الذهن ، يملأ كل الاماكن بظله المتمرد دوما علي الاصل ، قلق جدا و لكن رغم ذلك يدمن التأمل ، كنا نناقش مفهوم الحبيبة في الشعر الغنائي ، الحبيبة التي تداخلت في النسيج اليومي للحياة و حين نقول ـ اليومي ـ سرعان ما يفكر اولئك المتشاعرون و النقاد اصحاب الذائقة المرتبكة و اللغة المطلسمة انه حين يكون اليومي حاضرا في نسق القصيدة يكون الشعر غائب و تكون الشاعرية ضعيفة و لكن العميري وحده الذي يستطيع ان يرد علي ذلك ( ليكي مليون حق تخافي ما جبت ليكي شبط هدية و انا طول الدنيا حافي ) من الابيض ، حيث ولد العميري بعث لي شقيقه احمد العميري رسالة تضج بحزن التساؤلات ـ(( لقد ذهب و لكن من للصغار الذين يطيرو كالنحل فوق التلال؟ من للعذاري اللواتي جعلن القلوب قوارير عطر تحفظ رائحة البرتقال ؟ من يسقي الخيل عندما يجف في رئتيها الصهيل ؟ من يضمد في اخر الصيد جرح الغزال ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ )) كلما احتفل الزبديون بتراكم عام في نسيج هذا الخراب ساتذكر ان عميري وثق برحيله المتزامن جدا مع انتهاكهم ، وثق العميري برحيله ذلك التضاد الجميل مع اخطبوط القبح و الظلام ارتعشت مني الاطراف و انا اتسامر مع عوالم خليل فرح في ديوانه المحقق من قبل الراحل المقيم و الوناس العذب علي المك و ذلك لاني اكتشف ان خليل فرح قد رحل عن هذا الدنيا في يوم ثلاثين يونيو من العام الثاني و الثلاثين من القرن المنصرم ، هل تراني اصطاد المصادفات كي اؤكد تشاؤمي بهذا اليوم ؟؟؟؟؟؟ و ( بكره اجمل من ظروفنا و لسه جايات المني)