أسعد الله أوقاتكم بكل خير أصدقائي ومتابعي الأفاضل .
اليوم يسعدني أن ألتقي بكم ومعكم في رحاب أسطورة القيادة في الزمن الكلاسيكي الجميل ، الذي رحل عن دنيانا بجسده ،ولكنه مقيم بيننا بإرثه وتاريخه الذي كان حافلاً ببشارة الخير ،وباسعاد الناس.
شخصيتنا لهذا اليوم كان سائقاً مخضرماً بخط حلفا – كرمة في ذلك الزمن الجميل، الذي كان فيه الناس على إمتداد منطقتي السكوت والمحس حتى كرمة يترقبون أوبته من حلفا حاملاً طرود البريد، لكافة مكاتب البريد التي كانت تنتشر على امتداد المنطقة الجغرافية المذكورة.
بقي أن تعرفوا أن من إخترته للحديث عنه هو الراحل المقيم عمنا :
● دهب حسن طه ( دهب تينة )
من أبناء قرية عطب ،عمل في قيادة السيارات منذ بواكير سنه .وكان من أمهر وأميز سائقي الخط في ذلك الزمن الجميل، بلوريه المميز حيث كان يبدأ رحلته من سوق كرمة النزل عبر (عقبة فرَّيق) أيام الاحد متوجهاً الى وادي حلفا. وعلى متن لوريه الركاب المتوجهين الى الخرطوم وكافة مدن السودان المختلفة عن طريق قطار اكسبريس حلفا. وكذلك المسافرين الى جمهورية مصر العربية عن طريق عبارات وادي النيل . وفي طريقه يتوقف بجميع مكاتب البريد ليحمل معه طرود الرسائل الى بريد حلفا المركزي ،ومن هناك يتم نقلها بالقطار الى البريد المركزي بالخرطوم، وهناك يتم فرز الرسائل المرسلة الى خارج السودان .
ومن ثم يعود حاملاً أيضاً البريد والركاب القادمين من مصر وباقي السودان الى مناطق السكوت والمحس ايام الخميس، حتى يصل محطته الاخيرة سوق كرمة النزل .
ما كان يميز الراحل دهب تينة انه بجانب عمله في توصيل الركاب، كان يعمل بدقة وأمانة وإخلاص ناقلاً معتمداً ومتعهداً للبريد، حيث كان هو المسؤول في نقل ( البريد والطرود والحوالات المالية البريدية) التي اشرنا اليها، الى أن جاء إنقلاب 1989م المشؤوم فتم سحب رخصة نقل وتوزيع البريد من الراحل دهب تينة، ومن ثم ادخل الانقاذيون لوري في الخط ،وذلك لنقل الركاب والبريد للمنطقة المذكورة، وكان اللوري يتبع لمصلحة البريد والبرق ، وبسبب الفوضى والفساد الذي ضرب أطنابه في عهدهم البائس، وخاصة في مجال العمل العام، لم تنجح فكرتهم، ولم تستمر هذه التجربة الانقاذية في نقل البريد باللوري الخاص بتلك المصلحة ، فبدأت المراسيل تتأخر. وأخيراً تم تجفيف البريد وقفل كافة مكاتبه نهائيًا والاستغناء عن العمالة التي كانت تعمل في هذه المصلحة. فانقطعت المنطقة عن العالم عبر الرسائل، حتى صار المسافر هو ناقل البريد ولكن بطريقة غير منتظمة ، الى أن حلًت العولمة محل البريد.
كان المواطن في منطقتي السكوت والمحس، ينظر الى الراحل دهب تينة بالفال الحسن، لأنه ينقل البشرى لهم عبر ( رسائل وطرود وحوالات مالية ) وكنت شاهد على عصر تلك الطرود، التي كانت تصل الى مكتب بريد وبرق قريتي فركة من داخل وخارج السودان .
ولله در الشاعر الفنان مكي على إدريس صاحب الاغنية النوبية الشهيرة (عديله) الذي بين ثناياها وثَّق للراحل دهب تينة إذ يقول في إحدى كوبليهات الاغنية مخاطباً محبوبته:
..دهبل اتنيق واد داقي
..عديله وو بوستق انكاقي
اي يخاطب محبوبته ويسألها هل حقاً انت على موعد للسفر مع دهب تينة يوم الاثنين ؟
في رعاية الله ،ورافقتك السلامة يا من تحمل البريد!
أمضى الراحل سنوات طويلة في خدمة المنطقة ركاباً وبريداً ،وكان ذا همة عالية يهتم غاية الاهتمام باحوال ركابه ،وخاصة بتوفير مياه الشرب لهم لانهم سوف يشقون الصحاري حتى حلفا .
وكنت من زبائنه الدائمين أبّان عملنا في التدريس بمنطقة أرقو، حيث كنا نصل الى قريتنا في الاجازات المدرسية من سوق كرمة الاحد مع الراحل دهب تينة ، الذي كان دائم التوقف في مكاتب البريد المنتشرة بالمنطقة ،وفي إلاستراحات والمقاهي التي في الطريق ، حيث ينزل من لوريه وفي يده (شيشة-جراك ) ،ومن ثم يأخذ وقتاً كافياً الى ينتهي من تدخين الشيشة بمزااج، و يخاطب الركاب باسلوب جميل يلا انزلوا خدوا راحتكم وانا بشيش ونواصل رحلتنا ، حيث كانت الشيشة رفيقته في تسفاره الاسبوعي .
رحم الله دهب تينة واسكنه فسيح جناته .