(1) عندما توفي الأستاذ الطيب محمد الطيب في السادس من فبراير 2007م، أي في موسم حصاد الفول بقرية “أم غدي وزمان الهرج” في السودان، وصف صديقه البروفيسور عبد الله علي إبراهيم زمان رحيله، بأنه كان زمناً بخساً، حيث كانت “العُصب المسلحة تأخذ بخناق الوطن، وأن الشركاء متماسكون الحِززّ في جوبا، أو مدلون بدلوهم بزخات الرصاص في أركان النقاش الجامعية، ورائحة السُحت تزكم الأنوف وتكسر خاطر الناس.” لذلك خشي عبد الله أن يتحول رثاء الطيب إلى هامش في صراع السلطة بين الإنقاذ وخصومها. الآن يتكرر المشهد بصور أفظع وانتهاكات عظام، حيث استباحت مليشيات الدعم السريع العاصمة الخرطوم، وحولت جزءاً منها إلى ثكناتٍ عسكرية، حيث احتل عساكر الدعم السريع بيوت المواطنين التي تقع في مواقع استراتيجية، وعرضوا ممتلكاتهم للنهب والسلب، وأحرقوا بعض المكتبات والأسواق والمرافق العامة. ونتيجة لذلك هجر قطاع كبير من أهل الخرطوم بمدنها الثلاث دورهم قسراً، نجاةً بأنفسهم من المحرقة إلى بقاع آمنة في السودان، واستجار بعضهم الآخر بدول الجوار، والذين آثروا البقاء في منزلهم بالمدينة يقبضون على جمر البقاء، بين مليشيات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة والمستهدفة منها. في هذا الزمن البخس صعدت روح المؤرخ أحمد إبراهيم دياب إلى بارئها في السادس من يوليو 2023، ودُفن جثمانه الطاهر بمدرسة عثمان صالح للبنات بحي العمدة (أم درمان)، بالرغم من أنَّ منزل الفقيد يقع في منزلةٍ وسطى بين مقابر أحمد شرفي ومقابر البكري؛ لكن أهله آثروا السلامة والأمان. فدفن جثامين بعض الموتى في الطرقات وسوح المرافق العامة أضحت ظاهرةً ملازمة لهذه الحرب الضروس، التي اختلف الرأي العام بين مساندة القوات المسلحة للقضاء المبرم على قوات الدعم السريع وبين الدعوة لإيقاف الحرب حفاظاً على ما تبقى من ممتلكات المواطنين ومقدرات البلاد في العاصمة الخرطوم، وخوفاً من اتساع نطاق الحرب إلى ولايات أخرى في السودان.
(2) رحل أحمد إبراهيم دياب دون أن يكتب عن “خراب مدينة الخرطوم”؛ فهو من المؤرخين البارزين في السودان، ومن الباحثين في مجال التحولات التاريخية، وتأثيراتها على حركة المجتمع في كافة مستوياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لكن لكل أجلٍ كتاب. أولى المؤرخ أحمد اهتماماً خاصاً بالعلاقات المصرية، كما جاء في أطروحته لنيل درجة الماجستير بجامعة القاهرة فرع الخرطوم عام 1970 عن “العلاقات المصرية السودانية وأثرها في تطور السودان السياسي 1919-1924”. وركَّز جلَّ أبحاثه عن تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ومن اصداراته الشهيرة في هذا المضمار كتابه عن “المقاومة الوطنية للإدارة البريطانية: 1900-1924″، الذي كتب في إحدى صفحات غلافه الداخلي فذلكة عن نفسه، يُقرأ نصَّها هكذا: “أستاذ تاريخ السودان الحديث والمعاصر بجامعة أم درمان الإسلامية؛ الخبير بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو)؛ رئيس قسم التاريخ بمعهد البحوث والدراسات العربية [بغداد]؛ ومؤسس وعميد معهد بحوث ودراسات العالم الإسلامي، جامعة أم درمان الإسلامية؛ ومؤسس وعميد مركز البحوث والدراسات السودانية- جامعة الزعيم الأزهري.” وفوق هذا وذاك، عمل في جامعة الفاتح بطرابلس، وجامعة الملك سعود بالرياض، وأستاذاً زائراً في جامعة برلين الحرة.
(3) تشمل قائمة أبحاثه المنشورة الكتب والمقالات الآتية: أولاً: الكتب 1. لمحات من تاريخ أفريقيا، أمدرمان: دار المريخ للنشر، 1981. 2. تطور الحركة الوطنية في السودان: دراسة وثائقية، بغداد: معهد البحوث والدراسات العربية، 1984. 3. الاستعمار الأوروبي ونتائجه على العلاقات العربية، بيرت: مركز دراسات العالم الإسلامي السلسلة: الدراسات السياسية والاستراتيجية، 1991. 4. المقاومة الوطنية للإدارة البريطانية: 1900-1924، القاهرة: مكتبة المعارف الحديثة، 2006. 5. الهوية السودانية عبر التاريخ (دراسة تحليلية تأصيلية تاريخية)، الرياض: الدار العربية للنشر والتوزيع، 2006. موسوعة الرموز والشخصيات الوطنية السودانية 1900 – 1969، الرياض: الدار العربية للنشر والتوزيع، 2007.
ثانياً: المقالات 1. “دور الوحدات العسكرية السودانية في ثورة 1924م”، المجلة التاريخية المصرية، مج 24، 1977، 169-192. 2. “العلاقات بين المهدية والسنوسية”، مجلة الدارة، مج 7، ع 2، 1981، ص 252-260. 3. “من وثائق الحركة الوطنية السودانية: وثائق مؤتمر الخريجين 1937 – 1944″، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية، ع 11، 1982، ص 122-148. 4. ” تاريخ التعليم الإسلامي في سودان وادي النيل”، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية، ع 12، 1983، 203-213. 5. “معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا وأثرها السياسي على السودان”، المؤرخ العربي، ع 25، 1984، ص 186-192. 6. “اللغة العربية في اللغات الأفريقية الخلقية التاريخ”، ورقة بحثية، وقائع الملتقى العربي الإفريقي حول العلاقات بين اللغة العربية واللغات الإفريقية الأخرى، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمعهد الثقافي الإفريقي، 1984، ص 99-117. 7. “الغزو والاحتلال الايطالي لليبيا: في الصحافة العربية: موقف مجلة المنار المصرية”، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية، ع 14، 1985، ص 199-232. 8. “وثائق ومصادر الحياة الاقتصادية لسودان وادي النيل، 1821 – 1885″، المجلة التاريخية المغاربية، مج 12، ع 39/40، 495-504. 9. “الاطماع الايطالية في البحر الأحمر وأريتريا 1859 – 1885: دراسة وثائقية”، مجلة معهد البحوث والدراسات العربية، ع 15، 1988، ص 63-78. 10. ” أفريقيا بين المفاهيم الحضارية والممارسات العنصرية”، مجلة دراسات إفريقية، ع 4، 1989، ص 47-61. 11. “من تاريخ الاستعمار الأوربي في أفريقيا: الاحتلال الإيطالي لليبيا”، مجلة دراسات إفريقية، ع 6، 1990، ص 63-88.
(4)
رحم الله المؤرخ أحمد إبراهيم دياب، بقدر ما قدَّم للمكتبة السودانية. فإنه قد ارتحل في زمن تعقدت فيه رسالة المؤرخ، الذي يرغب في توثيق “حرب الخرطوم: جذورها ومسوغاتها وتداعياتها”؛ لأن الكم الوافر من المعلومات المتداولة يحتاج إلى مهارة في التحقيق والتدقيق والتثبت، وإعادة سردية المنقول والمكتوب عنها في وسائط التواصل الاجتماعي بطريقة موضوعية، تستطيع أن تستند إلى وقائع حقيقية، بعيداً عن مرويات تجهيل الرأي العام. ويحتاج في ذلك أن يستأنس بأسباب الأخبار الكاذبة التي وضعها ابن خلدون، والتي تشمل (1) “التشيع للآراء والمذاهب؛ و(2) الثقة المفرطة في الناقلين؛ و(3) الذهول عن المقاصد؛ و(4) الجهل بطبائع العمران البشري. فالقراءة الموضوعية لجذور الحرب ومسوغاتها وتداعياتها تساعد “أصحاب العقل الاستراتيجي”، إن وجدوا، في فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل بصورة أفضل؛ لأن كثيراً من الشعوب التي استوعبت دروس الحروب وعِبَرها، استطاعت أن تؤسس مستقبلاً ناهضاً في فترة ما بعد الحرب؛ يسع الجميع باختلاف بانتماءاتهم العرقية، ومنطلقاتهم الأيديولوجية، ومواقفهم السياسية؛ لأنهم وضعوا أجندة الوطن في مقام أسمى من أجنداتهم الحزبية وانتماءاتهم العرقية. فنسأل الله أن يستوعب السودانيون دروس الحرب وعِبَرها، ويخططوا للغد الأفضل، الذي يحلم به الشباب والشابات، الذين يمثلون الحاضر والمستقبل.