تناولنا في مقالنا السابق مقترحات الآلية الوطنية لدعم التحول المدني الديمقراطي ووقف الحرب، وقلنا إن الفكرة المحورية والسائدة في خطاب الآلية هي اقتراح تشكيل حكومة طوارئ مؤقتة مسؤولة عن إدارة الأزمة في البلاد وتتصدى لمعالجة النتائج التدميرية للحرب، وتوفير الاحتياجات الإنسانية والمعيشية والحفاظ علي تماسك الدولة السودانية في وجه التحدي المصيري الذي يواجهها ويهدد جودها. وأن الآلية ترى في تشكيل حكومة الطوارئ هذه أهم ما يمكن أن يتفق عليه الجانب المدني في إطار مجهودات وقف الحرب وتقصير أمدها.
وكنا في ذات المقال، قد أكدنا أهمية هذا الاقتراح وجديته، وأنه يستحق الاهتمام والدراسة الجادة، إلا أننا أشرنا إلى ضرورة اشتراك بقية أطراف القوى المدنية في بحثه، إذا لا يكفي أن تضطلع بذلك مجموعة الآلية الوطنية وحدها.
كما أن هناك عدة جوانب في المقترح تستوجب التوضيح والتبيان الدقيق، منها: هل المقصود قيام هذه الحكومة قبل وقف الحرب أم بعد ذلك. فتشكيل حكومة الطوارئ بعد توقف الحرب، ومن كفاءات وطنية غير حزبية أمر منطقي ومقبول، واتفاق القوى المدنية والسياسية على ذلك الآن يبشر بنجاح فكرة العملية السياسية التي ظل يرددها الجميع. أما إذا كان المقصود تكوين حكومة الطوارئ قبل توقف الحرب، فما هو الفرق بينها وبين مقترح حكومة المنفى الذي تطرحه بعض الجهات، والذي نراه اقتراحاً غير موفق وغير عملي، وسيزيد من تعقيد الوضع ويطيل من أمد الحرب.
أيضاً، لابد من بحث وتناول موضوع المساءلة للمتسببين في الحرب، وكذلك الوضوح حول موقع القيادات العسكرية الحالية من كل هذه العملية. كذلك، يبرز سؤال حول الجهة التي ستعلن تشكيل هذه الحكومة؟
من ناحية أخرى، قبل يومين وجه السيد مالك عقار خطاباً إلى الشعب السوداني أعلن فيه عن خارطة طريق لإيقاف الحرب. وأعتقد أن خطاب السيد مالك في مجمله إيجابي، ونتفق مع معظم ما جاء فيه. خارطة الطريق التي أعلنها السيد مالك عقار تبدأ بالتوصل لوقف اطلاق نار، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتحديد مواقع لتجميع قوات الدعم السريع بعيداً عن المناطق المدنية تمهيداً للفصل بين القوات، وتنفيذ الترتيبات الأمنية الخاصة بها، والالتزام بعدم تعريض المواطنين لخطر الاقتتال.
ويعقب ذلك بداية العملية الإنسانية بإيصال المساعدات الإنسانية للمواطنين في المناطق المتضررة من الحرب، والعمل على ضمان حياة طبيعية، بقدر الإمكان، للمواطنين السودانيين في ولايات السودان غير المتأثرة بالحرب، ثم يعقب ذلك الشروع في تصميم عملية سياسية شاملة الهدف منها مخاطبة القضايا التأسيسية للدولة السودانية من أجل بناء نظام دستوري وسياسي مستقر.
ضرورة أن تنحرط القوى المدنية والسياسية السودانية في إعداد رؤية موحدة حول عملية سياسية لإرساء حل سلمي يعيد البلاد إلى مسار التحول الديمقراطي، وتحقيق أهداف الثورة بعيداً عن ممارسات ما قبل الحرب
وأشار السيد مالك إلى ما أسماه بالفترة التاسيسية التي ستعقب إيقاف الحرب، معدداً مهامها في الإصلاح، وإعادة الإعمار، بالإضافة لتهيئة البلاد لممارسة سياسة راشدة، تؤسس لبناء الدولة السودانية، وتستهدي بشعارات الحرية والسلام والعدالة، التي رفعتها ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، وأن هذه التهيئة ستشمل كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية ليعاد بناؤها على أُسس وطنية وقومية تسمح لبلادنا أن تقف على قدميها مرة اخرى.
وفي جزء آخر من خطابه، عدد السيد مالك عقار ما يراه من أولويات واجبة التنفيذ تبدأ بوقف القتال، والحد من رقعة انتشار الحرب، ومنع انتشارها لمناطق جديدة، وتسهيل كافة عمليات الإغاثة الإنسانية، وتيسير وصول المساعدات للمواطنين المحتاجين في كل أقاليم السودان.
ضمان انسياب المرتبات للعاملين في الخدمة المدنية، وانسياب العمل في مجالات تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. وعدم السماح لاقتصاد الحرب، مع تسهيل كافة العقبات لضمان استمرار استيراد السلع الاساسية، والمستلزمات الضرورية للحياة. التعامل مع قضية وضع نزلاء السجون من مجرمين وقادة النظام السابق.
وفي خطابه، أشاد السيد مالك بجهود الأطباء والعاملين في قطاع الكهرباء والمياه، كما أشاد بالشباب والشابات المتطوعين في غرف الطوارئ ولجان المقاومة الذين لم توقفهم مخاطر الحرب من العمل على تخفيف المعاناة وتوفير حاجات المواطنين.
وفي هذا الصدد نود أن نلفت نظر السيد مالك إلى ما تقوم به بعض الجهات الأمنية من تضييق واعتقالات بحق هولاء الشباب، ونرى في تصديه لهذه الظاهرة اختباراً جدياً يضع كل ما جاء في خطابه على المحك.
لم يكن مستغرباً أن يتعرض خطاب السيد مالك وشخصه إلى هجوم حاد يصل حد البذاءة، وذلك من قبل المجموعات المنادية باستمرار الحرب، فهؤلاء همهم الأساسي ليس دحر قوات الدعم السريع، وإنما استعادة السلطة التي انتزعتها منهم ثورة ديسمبر/كانون الأول. فالحرب، في أحد أوجهها، اندلعت للقضاء على ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، ومؤججو نيرانها من سدنة تحالف الفساد والاستبداد يستغلون حقيقة أن انتصار الثورة كان جزئياً وغير مكتمل ما دام توقف عند الإطاحة برأس سلطة هذا التحالف، أو غطائها السياسي، بينما ظل جسد التحالف باقيا ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل، لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح.
ومنذ البداية، كان واضحاً أنه في سبيل أن يسترد جسد تحالف الفساد والاستبداد سلطته المنزوعة، لن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، يدمر البلاد ويدفع بالعباد إلى مغادرة الوطن. ومن ناحية أخرى، صحيح أن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع يقع على عاتقهما مسؤولية وقف الحرب، لكنها لا يمكن أن يحددا وحدهما مصير السودان بعد الحرب.
ومن هنا، ضرورة أن تنحرط القوى المدنية والسياسية السودانية في إعداد رؤية موحدة حول عملية سياسية لإرساء حل سلمي يعيد البلاد إلى مسار التحول الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة بعيدا عن ممارسات ما قبل الحرب. وأن تستمع هذه القوى بذهن مفتوح إلى تلك المقترحات الجادة كتلك الواردة من الآلية الوطنية لدعم التحول المدني الديمقراطي ووقف الحرب، ومن السيد مالك عقار.
كاتب سوداني