كشفت مشاركة السودان في فعاليات الجمعية العام للأمم المتحدة عن عمق الأزمة التي لا يبدو لها حتى الآن حل في الأفق، حتى اللحظة الراهنة، وذلك رغم عِظم الخسائر البشرية، وحجم الانتهاكات التي أنتجتها هذه الحرب لكل ما هو إنساني وحضاري.
قراءة متأنية لمحتوى خطابي كل من الفريق عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان دقلو، تكشف عن أن الرجلين يخوضان حرب إثبات الشرعية والجدارة، وذلك على الرغم، من أن قوات الدعم السريع قد فقدت شرعيتها السياسية نتيجة؛ ممارستها على الأرض التي نتج عنها إدانات من العواصم العالمية، وعقوبات دولية، وقعت على عبد الرحيم دقلو نائب رئيس قائد القوات.
هذه الحالة، جعلت مسألة إعلان حكومة تسيير أعمال من جانب البرهان بمثابة خطوة انتحارية، ينتج عنها بالضرورة إعلان عاصمة موازية تابعة للدعم السريع في الخرطوم، وهو ما يجعل السيناريو الليبي في السودان ماثلا، ويقود في أغلب الظن إلى تقسيم واقعي للبلاد، حتى دون علم ونشيد للدعم السريع.
وفي الوقت الذي يكتسب فيه البرهان قدرة على الحركة الخارجية، واستمرارا في اعتماده كجهة ممثلة لدولة السودان، فإن اعتماد تقديره بشأن ضرورة استمرار الحرب كحل للقضاء، عما يسميه تمردا، يبدو ضعيفا على المستويين الإقليمي والعالمي.
السؤال هنا لماذا يبدو الخيار التفاوضي بعيدا عن ذهن البرهان حتى اللحظة الراهنة،في الوقت الذي يقبله حميدتي؟ ولماذا يتمترس الرجل على موقف أن الحسم العسكري لصالح الجيش ومن معه، سيكون حلا في السودان، ويرفض في هذا السياق تفعيل مسار جدة، حيث تم تأجيل زيارته للرياض أربع مرات، وذلك على الرغم، مما يطرحه مسار جدة من فرص؛ لوقف إطلاق النار، وقدرة على الالتحام، ربما بمسار دول جوار السودان، وإمكانية أيضا لتنسيق مع مسار “إيجاد”، وهي حالة باتت مطلوبة بإلحاح من جانب جميع الأطراف الداخلية والإقليمة والدولية.
أغلب الظن، أن التقدير الذي يرتكن اليه البرهان يتجاهل حقيقة، أن قوات الدعم السريع قد فقدت فعليا شرعيتها السياسية، وذلك على الرغم من حالة السيطرة العسكرية على العاصمة السودانية، وأن وجودها على مائدة التفاوض كطرف هو منقوص الشرعية فعليا، ولا يضع هذه القوات موضع القبول السياسي من أي طرف داخلي أو خارجي، ذلك أن الانتهاكات التي تم ممارستها ضد الأهالي قد خلعت عن الدعم السريع هذه الشرعية، كما خلعتها أيضا العقوبات الأمريكية التي تم إعلانها، ضد عبد الرحيم دقلو ، وخلعها أيضا مشاركة حميدتي في انقلاب أكتوبر٢٠٢١، وهو يجعل تصنيفه، أو قواته، كقوى داعمة للديمقراطية، غير مقبول، أي كلام ساكت بالتعبير السوداني، رغم إعلان حميدتي مراجعات بهذا الشأن، وردت في خطابه الأخير.
بطبيعة الحال، لا يعلن البرهان عدم رغبته في التفاوض، بل على العكس كان من الدعاة إليه في أعقاب خطابه أمام الأمم المتحدة الذي أرهق نفسه فيه بنزع شرعية الدعم السريع المنزوعة من الشعب السوداني أصلا، دعوة البرهان للحوار كانت في أحاديث إعلامية لوسائل إعلام غربية، كان انحيازه للتفاوض فيها انحيازا تكتيكيا، بمعنى أنه قد قبل مبدأ التفاوض؛ لكن بشرط تنفيذ الدعم السريع لمخرجات جدة، فيما يتعلق بإخلائهم دور الناس والمستشفيات. وهو أمر ينزع عن الدعم السريع ورقتها الأساسية الضاغطة، وبالتالي يصبح هذا الطرح من جانب البرهان منزوع الفاعلية.
التقديرات العسكرية المتداولة، تشير إلى أن تأجيل التفاوض، بشأن إنهاء الحرب السودانية، يدعم إمكانية كبيرة؛ لاتساع حجم الضغوط العسكرية على الجيش السوداني، ذلك أن جبهة جنوب كردفان تتوسع واقعيا، بإصرار عبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية شمال على مهاجمة مناطق متعددة في الولاية، صحيح أن الجيش حتى الآن قادر على صد هذه الهجمات، لكن ذلك لا يمنع من التفاعلات العسكرية المستقبلية، غير مضمونة النتائج مع وجود عسكري لقوات الدعم السريع قريبا من مدينة الأبيض التي هي مدينة مفتاحية.
وقد تكون تفاعلات ولاية جنوب دار فور ليست بعيدة عن مسارات اتساع الصراعات العسكرية على أكثر من مستوى، ومنها المستوى القبلي، ذلك أن صراع قبيلتي السلامات وبني هلبة هذه المرة تدخلت فيه قوات الدعم السريع بقدراتها التسليحية الجديدة الناتجة؛ عن هذه الحرب في تطور غير مسبوق، وينذر بتعدد مستويات الصراع العسكري في السودان.
اتساع حجم الضحايا من البشر نتيجة؛ هذه الحرب سواء نتيجة الإشتباكات، أو نتيجة غياب الخدمات الصحية والدوائية، بات مقلقا، كما أن ارتفاع حجم الأنشطة ذات الطبيعة الإجرامية التي تمارسها قوات الدعم السريع، ضد جموع الناس العادية في كل المناطق، بات مقلقا فاحتلال بيوت الناس والاستيلاء على سياراتهم في تزايد، والاعتداء على القيادات القبلية، أصبح فعلا يوميا، وآخره محاولة اختطاف العمدة أحمد محمد عبد القادر عمدة أزقزقا، أقلق قبيلة الجوامعة بشمال دارفور بأكملها.
أتساءل، الجوع في السودان، ألا يقلق منام رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، فالأمم المتحدة ممثلة في منظمة اليونسيف، تقول إن من يحتاج إلى مساعدات غذائية عاجلة من أطفال السودان بلغ ١٤ مليون طفل، ناهيك عن الأطفال خارج السودان، بعضهم لم يستطع أهله، وهم مصنفون ضمن شرائح الطبقة الوسطى، تحمل تكلفة تعليمه في المنافي، واكتفوا بمحاولة إطعامه فقط.
ويبدو لنا، أن إستمرار الحرب يعني ارتفاع وزن، وتأثير الإسلاميين السودانيين، عبر ميليشاتهم المعاونة على الأرض في العمليات العسكرية، وهو أمر ليس في صالح أية معادلات سياسية مستقبلية في السودان من حيث التوازن، والقدرة على تأسيس حالة استقرار، فإذا كنا من المنادين بضرورة أخذ مصالح هذه الفئة بعين الاعتبار، بتقدير أنهم قوى اجتماعية واقعية، فإننا أيضا نرى مخاطر لقيادتهم المحتملة للمعادلة السياسية السودانية، بما يعنيه ذلك من ضغوط إقليمية على السودان، وقلاقل داخلية نتيجة؛ أن حكمهم لثلاثين عاما قد أورد السودان موارد الحرب والتهلكة.
التفكير الجدي في مسألة وضع أوزار الحرب، بخطوة وقف ممتد لإطلاق النار، بات فرض عين على رئيس مجلس السيادة في تقديرنا، لعدد من الأسباب، منها، أن تداعيات المشكل السوداني إنسانيا باتت مقلقة للمجتمع الدولي، وقد تكون ورقة انتخابية في الانتخابات الأمريكية القادمة، بما يفتح الباب أمام إمكانية توقيع عقوبات على البرهان نفسه، أو رموز في جيشه الذي هو العنوان الرمزي للسودان، رغم مشاكله، بما يعد خسارة استراتيجية.
إن إستمرار الصراع العسكري من شأنه أن يساهم في تشظي السودان فعليا بطبيعة التفاعلات سالفة الذكر التي أوردناها عاليه، وهو مايحمل البرهان مسئولية المساهمة الفعلية في انهيار بلاده، والانخراط في حرب أهلية شاملة، وممتدة كتلك التي تم وصم محمد سياد بري رئيس الصومال السابق بها بلاده في تسعينيات القرن الماضي.
تداعيات الصراع السوداني أيضا، أصبحت مكلفة للجوار الإقليمي للسودان بشكل كبير، سواء على مستوى إمكانية تصاعد التهديدات الأمنية، أو تحجيم فرص الاستقرار السياسي، أو فتح باب لتوترات داخلية في دول هشة.
إجمالا لن تقود الحرب السودانية لخير لأي طرف، حتى لو كان لديه قدرات عسكرية، أو متوقع لدعم عسكري، أو لديه حلفاء إقليمين أو حتى دوليين فالعالم في حالة فوضى، وتفاعلاته باتت مفتوحة على مفاجآت، والقائد الحقيقي من يجنب بلاده ويلات عالم اليوم.