جمال محمد ابراهيم
(1)
ويرحل الحبيب كمال عوض الجزولي ، وترحل إثره شــهادة شــاهد على تحــوّلات وطــن ، وإغماضِ عَـينٍ أبصرَتْ تداعي هشاشة ركائزه ، وسـقوطها شــاخصاً أمـام كلِّ العيون، فكان قـلمُ الرّاحلِ كمال، ذلـك المُفـصح المُبين في شــهادته الأوثق ، وفي إبصـــاره الأعــمـق، إفصــاحا ترك إصـبعاً على أوجاع ومآسـي وأحـلام، ووثوقـاً لتبعـثـر ممســكاته أيدي سبأ. ترَى هَـل كان رحيـله قـدراً لازماً لا مَهــرب من حلوله في الخامس من نوفمـبـر أوان الحروب العـبـثـية، أم لـنا أنْ نأسَـى لحيـْنٍ ، ثمَّ سِـرعان ما تعـود أحوالـنـا إلى قديْمِـها التـلـيْـد..؟
(2)
كمال الذي عرفتُ، هو بعضُ ضميرِ جيلٍ كاملٍ، تفـتّح على الحـياة في أعـقاب انطـواء سنوات الحـرب العالمية الثانية، وكاتب هذه البكائية في رحيله هوَ أيضاً من ذلك الجيل ، فشهد وشـهدنا معه كيف سعَى جيـلٌ سـابق ســعياً منـزّهاً عن ملاحـقـة الشـخصي الخـاص، بل ارتضى التـوجّـه للعام المعـنيّ بأمورِ بناءِ البلاد . غـيـر أنّ الإنجــاز لا تحقـقــه الأحــلام بل الإرادة الصادقة ، والبـناء لا يبقى رهيْـن التطلعـات، بل ينجـزه التصمـيـم الأكيــد. ترعـرع جيلـنا – والرّاحل كمــال في قلـب صفوفه – على صفوةٍ فعلـتْ وصممتْ وأنجـزت، بقــدرات حسبناها مسير قاصدة بناء أمّة . لو كان للديمقراطية من نشـأة في تلكم السنوات ، فقد مارسها الخريجون في مؤتمرهم عام1938م ، على هـدى ما عـرفـوا عن مؤتمــر الهــنـد ، فارتـقـتْ أحــزاب السّــودان السياسية من مثل تلك الممارسات وعرفوا الانتخاب وأرسوا الشورى. ولو جئنا على قيم التسامح ، فقد سمعنا – إن لم نكن شهدنا في صبانا – كيف استضاف زعيم طائفة الأنصار في داره وفد الحزب الشيوعي الروسي الذي قدم لزيارة قادة الحزب الشيوعي السوداني في الخرطوم، ثم أما سمعنا عن دارة البيه عبدالله خليل زعيم حزب الأمة والتي كان من زوارها المداومين سكرتير الحزب الشيوعي السوداني ..!
لا وألف لا.. لن نكيل التهم جزافا إن أخفقتْ المساعي في بناء الوطن بعد رحيل الكولونيالي، فتلك ليست مسئولية تقع على نخبة واحدة تولت زمام أمورالبلاد، إذ أن أجيالا تتالت في حكم البلاد ، أسرفت بقليل درايةٍ وكثير استبدادٍ، في إفشال مسيرة لبلد ملك من الموارد والثروات بشرية وطبيعية ما ملك وإن سلمت نوايا بنيه وقتذاك، لتولى قيادة مسيرة قـارة أوجعـتها أدواء الاستعمار، الذي غــادر ولكن بقيت ظلاله وأشباحه تسعى. فيما تعاظمت التحديات ، ليس لبناء الداخل في الوطن، ولكن لاستكمال متطلبات الخارج في تعاون دولي ، حضتنا عليه العـقـائد لنكون شــعوبا تتعـاون وتبرّ بعضها بعضا، فلا تقع صـراعات وحــروبات، بمثل تلـك التي أحـرقـت العـالم بيـن عـام 1938م و1945م. لن نحاكم جيـلا بعسفٍ وبظلم وميل ، فيما يزعم بعض المزايدين أن “سودان 56” – وهو السودان الذي تولى أموره ذلك الجيــل بعـد خروج الكولونيالي عــام 1956م، أنّـه سـودان عاطـل وفاشل وحريّ بأهله أن يدفنوه تحت الثرى. ليس جيلي وجيل الرّاحــل كمال من يدين ذلـك الجيل السابق ، بل لنا أن لا نغمض الأعيـن عمّا ارتكبـتْ أنظمـة عسكرية عِـيْلَ صبرها على بعض عـثرات الديمقراطية فطوّحتْ بالبلاد إلى متاهات الاستبداد. .
(3)
على أنّ الرّاحل العزيز، بقيَ في صموده داعية لحرية الرأي، لا لقمعه على يَـد مُســتبدٍ باطش ، واتبع إلى ذلك نهجاً ميّز ســلوكه المهنيّ والسياسيّ والإبداعـي ، محامـيـاً وسياسيا وشاعرا وناقدا . نهجَ الراحل المقيم نهجَ التجــديد السياسي في أروقة اليسَار العريض، فلم يَمِل للبناء على نهج الطوائف التقليدية ، وإن لم يُقلـل من احترامه لها، أوالاعتراف بريادتها بقـدر بذلها المحكوم بظروفه التاريخية التي نعرف . على أنّ للرّاحل كمال إرادة صميمة لا تسامح الظلم ، وأكبرهُ ظلم الوطن ، كما لا تسامح الطغيان، فهو إهدار لكرامة الإنسان الذي ولد حرالا يقهر أو يستعبد. وللراحل العزيز حق أن نفصح عن نبيل خلقه المهني.
لقد اختار الرّاحل العزيز دراسة القانون ، وكأنّ وجــدانه خلق مجـبـولاً على مـرافـقـة العدل ومصارعة الظلم فكانتْ تلك هيَ ركائز شخصيته الميّـالة بالفطرة السّـوية ، وبما تشــرّب مِن قـيـَم مجتمعه الصغير والكبير، لإحقــاق الحـقِّ وللمدافعة عَن المظلوميــن فتســود العــدالة وتســتقـيم المساواة وتستكمل كرامة الإنسان أسمى معناها. ليسَ الرّاحل كمال في مهنيته ، مثل سـواهُ من اســاتذة الـقانون، أو من نظرائه المحاميـن. لا ينتظر الرّاحل العزيز أن يسـعَى إلـيه مظلوم هَضـمَ حـقّـه ظـالمٌ، بل هـو السّـاعي إليـه دون محاججـة، فإن تولاها ونجحــتْ وافـق الأمر قناعـاته ومبــادئه، أو إن فشلتْ يكفيه مَسعَى المبادرة لإنجاحها. ملـكَ الرّاحـل كمـال من تأهيلٍ قانـوني، ومـن عزائم صادقة، ومن هِـمّـة عاليةٍ لمقارعةِ الظلم، وذلـك ما عَـزَّز قناعاته السياسية والتزاماته الأخلاقـيـة ، وهو في محافل القضاء الواقف ، لا تلين له قناة في المدافعة، ولا ينعقد له لســان في الزَّودِ عَـن الحـقِّ، ضائعـاً كان أم مُضـيّعـا.
(4)
وإذ أشيرهُـنا لملكات الرّاحل العزيز في ساحات العدالة وجولاته فـيها ، فـذلـك مـا هــو أقرب لمهنته وأدنى لحصـائله الأكاديمية ، لكن سترى للرّاحل هِـمَماً في المواهب وتعدّداً في الاهتمـامـات. للرَّاحح٠ل أيضاً صـولاته في ســـاحات الأدب ، شــاعراً مُجـيْـداً وكاتبـاً ناقـداً وسياسياً فصيحاً.
أقـدّر شخصياً ذلـك الإسـهام الفكـري الـذي برعَ في تـبـيانه الرّاحـل العــزيز كمـال الجزولي، وتجلّى من ذهـنه الجميل ، إبداعاً في الكتابة السياسية ، كما في الشـعـر والأدب والقصّة ، يُحـدِّث بلغةٍ فارهة عمّا لحق بالوطن من انتكاسٍ ، وما ناله من أذى، وبأسلوبٍ تتجلى فرادته في صياغة عـبـارات تتخلّق من قـلمٍ عبقـريّ الإهـاب ، ومن ذِهـنٍ بارعٍ في التوقّـد ..
(5)
ثمَّ يجترح الرّاحل صوّراً من شــهادته على عصرٍ تقلبَتْ فيه سـنواته الأمدرمانيـة في حواري تلك المدينةِ الترابيةِ التي أحَـب، محبّـة عاشــقٍ جـرى الولهُ بها في شــرايينه ، وما أبعدته السياسة – وقد جال فيها وصال – بل زادته حباً لمدينته وانقطـاعاً مُعجبـاً بما حَـوَتْ مِـن جماليات العلاقات الانسانية الحميمة، التي نشأت بين ساكنيها . إنْ جلست إلى الرّاحـل ليســمعك عن غرامــه بمدينته ستعجب ، بل يحضَّـك على محبّـتـها بما يحكِي هو عَـن تلـك الحواري الخضراء البهية بألـقِ تلـك السنوات التي شبَّ صبياً فيها في أم درمان ، وتشـرّب بتنـوّع ثقافاتها وهي المدينة التي تفتّحَـت بتلاتُ السياسة وأزاهير الثورات في أزقّـتها قبل حواريها، وفي نواديها قبل منتدياتها، وعند بُسـطائها قبل كِـبـارها ، فتكتمل عند كمال ركائز شخصيته الأمدرمانية ، كأقوَم ما تكون وأنبلَ ما تحمل وأجزلَ ما يُقـال وأفصحَ ما يُكتـب.
قالَ يحدّثني عن تلك المَحبّة، وبروح الفكاهة التي عنده، وقد وقفـنا ذاتَ يومٍ عند مدخل داره الجميلة ذات الطوابق : قلـتُ لمهندس بيـتي أن يبني طابقـاً بعد طابق ، وإني سأنبههُ متى يوقـف البـناء . سألته كـيــف ستعرف ؟ قال لي: أوقفته حين اعتليت سطوح البيت وحدّقتُ ملـيّـاً فرأيت رأس قـبّة المسجد، ليس بعيداً عن “حُـفـرة كلـودو” في حيّـنا الأمدرماني. . !
(6)
ولأنّهُ المُبدع المتفرّد، فقد افترع إبداعاً في الكتابة يخصّ قلـمه وحده. . إبداع في الكتابة غير مسبوقٍ ، تمثل في روزنامياته التي صارت اللازمة الأبرز في منتوجِـهِ الفكري، والـتي وإن لم تبزَّ كتاباته ومؤلفاته الأخرى صيتاً وانتشاراً ، إلّا أنّها كانت علامتـه الفارقـة بيـنَ كلّ كتَّابِ الرأي ومدبّجي المقالات السياسية والإجتماعية والثقافية المحضة. لم يكن الرّاحل كمال وحده الذي بادر بالرّصد وتدوين وقائع أيّـام عاشـها وشـهد تفاصيلها، فإنه ومن قناعــته أنّ سواه كثيرون فيهم من رصد واقعةً ، أو شـاهدَ حدثاً ، أو وثّقَ مشـهداً ، أو روّجَ رأياً ، أو ثبّتَ موقفا، بل فتح باب “روزنامياته” لضيوفٍ إنتقـاهم مِـن بين أصـدقائه، بينهم مثـقـفـون وثق في رؤاهـم، و كُـتَّـابٌ اسـتهضمـوا السياسـة، وبعضُ آخرين ممّـن تفـوّقـوا في صنـوفِ الإبـداع الأخرى من شعرٍ وروايةٍ ونقـد . لمّا استضافني ذات أسبوع إلى روزنامياته، تردّدتُ مثـلـما تهيّبتُ ، ولكنّه أصرّ وألحّ إلّا أن أشارك بالكتابة عن أيامٍ لي في روزنامية ذلك الأسبوع الذي اختاره لي. في حقيقة الأمر إنك إن عزمتَ أن تدخل إلى روزنامة الحبيب كمال ، فعليك أنْ لا تفارق أسلوبَ مبتدعها ، وأن تـتـبع الأسلوب الذي ارتضـاهُ لهـا، في الشكل كما فـي المضمـون. ذلك ما ضاعفَ تردّدي، إذ خشـيت على قلمي أن يقحـم نفسه في مقاربة ومقارنة مع إبداع كاتب له قـلمٌ مُميّـز مثلَ كمال. دخلت التجربة ضيفاً على تردّدٍ لكن قال لي كمال : أبدعـت ، فكأنها كتابتي..
(7)
كنت قد أشرتُ أعلى كتابتي هنا عن الحبيب الرّاحل كمال ، مـنـوّهاً بهـمّته العالـيـة فـي التصدّي لرفع الظلم وترسيخ الحقِّ لصاحبه ، فإذا بالذي حدثتك عنه تأتيني منه سانحة لمستُ فيها هـمّـة الرّاحل جلية بائنة فجرّبتها بنفسي. ولجتُ لتجربة عملي مع مفوضية استفتاء جنوب السودان ، وقع لي مـا حدا بالرّاحل أن يُبـادر برفع ظـلـمٍ وقــع عليّ مـِن طـرف رئـيس تلــك المفوضية. وفحوى القصّة أنّي مــا قبـلتُ تولّي العمل الإعلامي في تلـك المفـوضـية ، إلا بعـد إلحاحٍ من أصدقاء أعزّهم بيـنهم الصّـديق الصحفيّ الأعزّ محمد لطيـف، والصديق المُقيم في كـنــدا منذ ســنين، الأستاذ السّـر سـيدأحمد، ثمّ أخي كمال الجزولي. بعد توتر عـلاقتي بقـيادة المفوضية ، نأيت بنفـسي عنها وفارقتُ المفوضية مفارقة الطريفي لجمله، وإن كنتُ لا أعـرف الطريفي ولا حجّـته على جمله، الذي جاء في المثل ، لكنّي عرفت أصل حجّتي على من قاد تلك المفوضية، فخرجتُ منها غير نادم ، إلّا أنّ رئـيــس المفوضية على تبجيلي واحترامي له، آثر تشويه إسـمي للداني والقاصي في الصحافة المحلية بلا مبرر. لم يعجبـني ذاك من رجل هـو من الجيل المؤسّس. كنتُ ضيـفاً على مائدة كمـال في داره العامرة بشــمبات ومعي الصّـــديق العزيز محمد لطيــف. وكدأبِ كمال في المبادرة بالدّفاع عن أيّ مظلمة تمرّ أمام عينـيه ، طلب مِنّي أن أترك الأمر لهُ وسيردَّ لي حقّي الأدبـي كاملاً .. اعتـذرتُ للرّاحل أنْ لا ننسج قصّةً حول رجل أوغل في تسعيناته ، ثم إنّي كفيل بتبيان الحقيقة للناس بما انتويتُ أن أكتب عن تجربتي البئـيسـة تلك مع الرّجل، وقد فعلت.
(8)
لعلّ عليَّ في حزني على رحيل صديقي الأعزّ كمال الجزولي ، أن أجهر بالعزاء فأدعو لهُ بالرَّحمةِ والمغفـرة، و للدكـتور أبي ولشقيقته ولوالدتهمـا الســيدة الجليـلة الدكتـورة فائـزة بصادق الصبر على الفـقـد الجلل. ولا أزيد حزنَ قرّائي الذي جهرتُ به هنا، غير أنّ إشـــارتي لجيـــل الرّاحل كمال ، يعنيـني ويخصّ أكثر أبنـاء ذلـك الجيـل وأنا منـهُ ، آمـلاً أن لا يأتـي من ذلك الجيل الخارج من غيابة المستقبل ، والناهض من رماد الحـرب الأهلية الدائرة رحاها ، مَن يتهـم جيلـنـا أنّـهُ الجيلُ الذي هزمتـه حرب عبثية وأضـاع وطنـا. .
الإسكندرية – 7 نوفمبر 2023
jamalim@yahoo.com