لقد إنقضت مئتا عام علي تكوين دولة السودان بإسمه الحالي و بواسطة الأتراك وتم ذلك في عام 1822. قبل ذلك وعبر التاريخ كانت أراضي هذا الإقليم متوزعة بين ممالك عدة أولها كانت مملكة كوش قبل 7 آلاف سنة و كان يحكمها النوبيون سكان شمال و وسط السودان من كرمة ثم مروي، ثم بعد إنتشار المسيحية تكونت ممالك النوبة المسيحية الثلاث في نوباتيا و المقرة و علوة، و بعد دخول العرب المسلمين للسودان تكونت السلطنة الزرقاء في عام 1504 نتيجة تحالف بين العبدلاب و الفونج، و تكونت مملكة تقلي في جبال النوبة في عام 1570 و دخلت في تحالف مع العرب المسلمين الدعاة، و أيضاً تكونت سلطنة الفور وتأسست علي يد السلطان سليمان سولونج في عام 1640 كنتيجة لتحالف بين الفور و عرب بني هلال، ونزح أحد أمراء الفور بعد خلافه مع السلطان سليمان سولونج إلي كردفان و تحالف مع العرب المهاجرين و كوّن دولة المسبّعات، وقبل الغزو التركي للسودان كانت في شمال السودان مملكة الشايقية التي ظهرت منذ عام 1672 . كان حال السودان مع وجود كل هذه الممالك كحال الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكان التحارب والنهب والسلب هم سمة العلاقات بينهم.
تجربة الوحدة الوطنية في السودان لا زالت تعاني من معاول الهدم التي إستعصى معها البناء، فتجربة المئتين عام قد خرجت بأمريكا لتصبح دولة عظمى بعد أن كانت مستعمرة بريطانية تعاني من تنوعها العرقي ولكنها إستطاعت أن تجعله لها نعمة بعد أن كان لها نقمة أشاع فيها العنصرية و البغض و الحروب. أما نحن فتجربة المئتين عام لم تزدنا إلا خسارا.
لقد فرض الغزو التركي هيمنته بقوة السلاح علي الممالك و المشايخ التي كانت علي الساحة السودانية وجعل منها دولة واحدة تأتمر بأمره ولا تخرج عن طوعه. لقد تأخر إنضمام دارفور نسبة لأن محمد علي باشا قد عيّن إبنه إسماعيل لقيادة جيش النيل بينما عيّن صهره الدفتردار لقيادة جيش كردفان ودارفور، وتمكن الدفتردار من دخول الأبيض وضم كردفان ولكنه قبل أن يتوجه إلي دارفور تم إغتيال إسماعيل باشا في شندي فاتجه الدفتردار شرقاً وباشرحملاته الإنتقامية، ولذلك تم ضم دارفور للسودان علي يد الزبير ولد رحمة الذي كان يتاجر في بحر الغزال وكوّن جيشاً قوياً ليحمي زرائبه و سمّى جنوده البازنقر، و نسبة لقطع الرزيقات لطريق تجارته إلي الشمال قاد جيشه لمحاربتهم و كانوا يتبعون لسلطان دارفورلكن في شبه إستقلال عنه فانتصر عليهم في بلدتهم شكا و لكن قادتهم هربوا و إحتموا بالسلطان إبراهيم سلطان مملكة الفور الذي حماهم و رفض تسليمهم للزبير بل و أرسل جيشه لمحاربة الزبير و لكن الزبير إنتصر عليهم ثم توجّه نحو الفاشر و إنتصر علي السلطان إبراهيم في معركة منواشي في يوم 15/10/1874 و بذلك ضم الزبير باشا إقليم دارفور للدولة السودانية. في عهد المهدية ظهر التفريق الجهوي و العنصري بين أبناء الغرب وأبناء البحر، وبعد موقعة كرري عاد علي دينار من معتقله في أم درمان وأعاد ملك أسرته في دارفور بالإتفاق مع الإنجليز لتكون تابعة للسودان ويعطيهم خراجها السنوي ولكن في الحرب العالمية الأولي في عام 1914 إنفصل علي دينار بدارفور بعد أن تحالف مع تركيا فحاربه الإنجليز وتمت إستعادة دارفور للسودان في أواحر عام 1916. في الحكم البريطاني طبقت بريطانيا أساليب الحكم الحديث و بسطت المساواة بين المواطنين ما عدا الإقليم الجنوبي الذي جعلته مناطق مقفولة و عللت ذلك لتخلفه ولكنها نشرت فيه المبشرين المسيحيين لتنصير الجنوبيين ولتأليبهم علي الشماليين (الجلابة) ولذلك قبيل إستقلال السودان وفي عام 1955 إنفجر التمرد العسكري في جنوب السودان و إستمر طويلا في هدن وإتفاقات متقطعة إلي أن تمت إتفاقية نيفاشا في عام 2005 و تم إنفصال جنوب السودان في عام 2011 مع أمنيات العودة الطوعية. ثم أتى دور إقليم دارفور فاشتعلت فيه الحرب منذ عام 2003 رغماً عن أنه جزء من شمال السودان وكل سكانه مسلمون وبه خليط من العرب والأفارقة في تعايش سلمي منذ مئات السنين ورغم ذلك ظهرت فيه حركات مسلحة قاومت سياسة الإحلال الإنقاذية الغير عادلة بإنحيازها للرعاة علي المزارعين، ولكن البعض في هذه الحركات المسلحة إنحرف في توجهه فجعله حرباً بين (الزرقة) و (الجلابة) و هدد بتدمير العمارات و إحتلالها في مدن الشمال النيلي، وفي المقابل أبان مواطنو الشمال النيلي أنهم بريئون مما حدث في دارفور وأن عمارات الخرطوم قد بنوها بتعبهم و عملهم الشاق لسنين عديدة في بلاد الإغتراب و الخرطوم هي للجميع وأن نظرات العنصرية ضدهم سوف تجعلهم يتنادون لتجمع البحر والنهر.
الآن يزداد المشهد السوداني قتامة بإنتشار رقعة الحرب من الخرطوم إلي دارفور وأجزاء من كردفان وصارت قوات الدعم السريع هي المتقدمة فيها بينما الجيش في إنسحابات من مواقعه. في هذه الأثناء حدث تطوران من الجانبين: في جانب الدعم السريع ظهر فيديو لقائده محمد حمدان دقلو متحدثاً عن راهن الحرب ورغماً عن الجدال الإلهائي بين المواطنين ما بين حياة وموت حميدتي فقد كان الغرض إيصال ما يراد قوله. لقد إستوقفتني ثلاثة قرارات في خطاب حميدتي هي أولاً قراره بترك إدارة الأماكن التي سيطر عليها في دارفور لأهلها و يدعو لتطبيق النهج الديموقراطي و الحكومة المدنية و ثانياً دعوته للإتفاق مع الحركات المسلحة في أمر دارفور وكردفان وثالثاً أن يدفع حالياً مرتب شهر لجنوده و يسدد المتأخرات فيما بعد، وهذه القرارات الثلاثة وراؤها تبعات سوف تنجلي في القريب العاجل. في جانب الجيش وبناءً لصحيفة (الجريدة) يجري حالياً إنقلاب ناعم الهدف منه الإنفكاك من قبضة الكيزان علي الجيش و التي إستمرت منذ عام 1989 ويقوم بهذا التغيير الضباط الوطنيون غير المؤدلجين فتم تعيين الفريق ركن آدم هارون والفريق ركن محمد منتي لقيادة منطقة وادي سيدنا العسكرية التي يبدو أنها سوف تحل مؤقتاً محل القيادة العامة في إتخاذ قرارات التفاوض و وقف الحرب، فضغوط الكيزان و الفلول علي البرهان كانت بادية حتى أشرت مرة في إحدى مقالاتي أننا ربما نشهد قريباً المفاصلة الثانية كتلك التي كانت في عام 1999 بين الترابي والبشير.
من ناحية أخرى يهيمن الحراك الثوري علي الساحة الشعبية بالدعوة لتكوين الجبهة المدنية الديموقراطية كأكبر تجمع للجان المقاومة وللأحزاب و للنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وكان إجتماعها التحضيري قد إنعقد في أديس أباب في يوم 21 أكتوبر الماضي وفيه تكونت تنسيقية القوى الديموقراطية المدنية (تقدم) لتقوم بمداومة الإتصال بكل القوى المدنية الديموقراطية وقيادتها لوقف الحرب وتكوين الحكومة المدنية.
إن أي تنازل عن شعارات ثورة ديسمبر المجيدة سوف يقود إلي ما لا يُحمد عقباه … الثورة ثورة شعب، والسلطة سلطة شعب، والعسكر للثكنات، والجنجويد ينحل، والثورة مستمرة.