في صبح يوم الأثنين الذي أعقب رحيله.. لصبح الذي أشرق علي الدنيا، حزيناً، والأستاذ في رحاب الله.. اتصلت هاتفياً، بالأخ غسان محمد الأمين لأعزيه، كانت ليلة الأحد عاصفة بالذكر والتذكر، مشبعة بمشاعر الحزن، خرجنا من حفل تأبين الأستاذ كمال الجزولي، والمساء في بداياته، وقد امتلأنا بفيض سيرته العطرة، توكلت على الله، ومضيت صوب داري، ليفاجئني صوت الفنان ميرغني الزين، عبر الهاتف، جزٍعاً، وأنا لم أفرغ بعد، من استيعاب الحزن القديم:
الأستاذ مات يا تاج السر!
كان ميرغني يغالب انهيارًا ، بسبيله إلي أخص خصاص روحه، يفضحه صوته، الذي حبسته العبرات قسراً. كان ميرغني، تحت سلطان الردى، إن كنت تعلم، أو لا تعلم بمجيئه، فإنه حتماً، مفاجئك.
كل الذين زاروا الأستاذ، وهو طريح الفراش الأبيض، في الأسبوع الأخير، لم يتمكن من التعرف عليهم، أو مخاطبتهم، كان محمد الأمين، في تلك الأيام العصيبه، يطرق علي أبواب السماء، في رفق.
قلت أحدث اخي منعم الجزولي، حين قضي الأمر، ورفعت الصحف في ليلة الأحد، حدثت منعم فقلت: فكأنما أرجئ موته، حتي يأخذ كمال الجزولي، حظه من العزاء، ومن محبة الناس، ويكتمل نعيه، وتأبينه وذكر مناقبه.
في صبح الاثنين
هاتفت غسان، وأنا أعلم أن هواتفه كلها، لا تكف عن الرنين، فتق ثانية.
ولكنه أجابني، وصوته يتعثر في النشيج، ترحمنا عليه، ودعونا لذريته بالبركة
وقبيل أن ينصرف غسان، إلى أفواج المعزين، خاطبني بقوله، وكأنما يزيح ثقل عن صدره…
يا تاج السر، الوالد، أفاق قبل ثلاثة ايام من وفاته، وعاين لي، وقال لي:
( ياغسان.. انا ما حاقدر أكمل العمل الاخير)!
ثم أخلد الي نومته، التي لم يفق منها بعد ذلك أبدا.
ما كان لهذه الجمله، بسيطة اللغة، عميقة المعنى، أن تمر بعقلي مرور الكرام، ما كان لي أن أدعها تمر، دون تمحيصها، والتأمل في دلالاتها، وما كان لها إلا أن تعلق بذاكرتي، ربما وإلى الأبد، فحينما منحته السماء ، ثوانٍ، ليقول فيها، في فجة الموت، وصية، أو أمنية، كان الأستاذ محمد الامين، مهموماً بإكمال رسالته، حزيناً لأن الجسد الواهن، لم يقدر على إكمالها.
لم يوص ابنه بمال ولا بأي عرض من أعراض الدنيا الزائله. لم يحدثه عن أموال مخبأة في بنك تركي أو ماليزي
أو عقارات في الإمارات، وإنما أفصح بأسفه، أنه لم يعد بمقدوره، إتمام عمله الأخير!
وكأنما لسان حاله يقول هانذا أموت، وليس في وجدان أهل السودان شبر، لم أخط فيه أثراً للجمال.
فلا نامت أعين الجبناء، الذين اشعلوا النار والخراب والدمار في سوداننا.
لروح الموسيقار العظيم، في سرمده نقول:
نشهد نحن، أهل السودان الواحد، بأنك قد أديت رسالتك على أكمل وجه، وأنك أديت دينك .. ويزيد.
فلتسترح روحك في عليائها. فقد تركت لنا من زاد الشجون ما نتقوت منه أبد الدهر.
وددت أن أشرككم في هذه التجربة الشخصية.
تاج السر الملك