يشكل سقوط مدينة ود مدني الواقعة وسط البلاد، وعلى مسافة أقل من مائتي كيلو متر من العاصمة السودانية في يد قوات الدعم السريع تطورا كاشفا لمسارات مرتقبة بالسودان على الصعيدين السياسي والعسكري، مرتبطة بتوازنات قوة جديدة، لا تبدو، أنها في صالح الجيش السوداني خصوصا بعد انسحاب فرق القوات المسلحة من ود مدني بلا قتال فيما تم وصفه من جانب أوساط الرأي العام السوداني بخيانة، بسبب اختراق تم للقوات المسلحة السودانية، وهو الاختراق الذي أعلنت قيادتها، أنها تحقق فيه، ولكن حتى الآن لم تظهر نتيجة لهذا التحقيق الذي ينتظره الرأي العام داخليا، وخارجيا رغم مرور أسبوع تقريبا على سقوط ود مدني.
هذ المشهد يفتح الباب أمام عدد من السيناريوهات: الأول، هو تمكن الدعم السريع من السيطرة على مقاليد حكم السودان، أما السيناريو الثاني، فهو الاستقرار على صيغة تدخل دولي مؤقت، أو ممتد طبقا للظروف، بما يضمن استمرار دولة السودان، أي ما كان مستوى قوتها أو فاعليتها داخليا، وخارجيا؛ نظرا لأهميتها الجيوسياسية.
السيناريو الثالث، ينحصر في فوضي مسلحة، وممتدة بلا أفق واضح؛ نظرا للانشغال الدولي، والإقليمي بمجريات كل من غزة وأوكرانيا، حيث أن كلا الصراعين مرتبطان بتفاعلات النظام الدولي على نحو أعمق، وأكثر تأثيرا، ربما من المجريات السودانية في هذه اللحظة.
معطيات السيناريو الأول، في تقديرنا مؤسسة على أن تقدم الدعم السريع، وسيطرته على ود مدني، تعني الإصرار على تنفيذ مخطط، تم إعلانه سابقا على لسان عبد الرحيم دقلو نائب رئيس قوات الدعم السريع، بوجود مخطط للسيطرة على كامل التراب السوداني، وهو الأمر الذي يعني قدرة على التقدم نحو منطقة شرق السودان في القضارف وغيرها، وهو الأمر الذي يسهل حصول الدعم السريع على قدرات لوجستية جديدة، سواء على الصعيد التسليحي أو غيره من مطارات إثيوبيا القريبة، بما يعني في المحصلة النهائية تنفيذ مخطط الدعم السريع السابق إعلانه.
في هذا السياق، نستطيع أن نفسر أسباب استقالة يوسف عزت، المستشار السياسي لقوات الدعم السريع المعلنة مؤخرا من منصبه، حيث من المرجح طبقا لبعض التقديرات، أن يكون للرجل موقعا سياسيا رفيعا في الترتيبات التي تجري حاليا في الكواليس المؤسسة على تحقيق فعلي من جانب الدعم السريع؛ لخطة سيطرته على غالبية التراب الوطني السوداني.
طبقا لهذا التطور المرتقب، فسوف يتم تشكيل وتأطير هياكل سياسية مدنية، تقوم بمهام تأسيس سلطة الدعم السريع في البلاد التي ليس بالضرورة، أن تدشن تحولا ديمقراطيا في السودان، نظرا لأمرين: الأول، أنها لا تمتلك شروطه الموضوعية، والسبب الثاني، يعود الي تعقيد التركيب السوداني، ومشكلاته متعددة المستويات، خصوصا على الصعيد العرقي.
أما معطيات السيناريو الثاني، أي وقوع السودان تحت مظلة إشراف دولي أو وصاية ودولية، ولكل مفهوم منهما منظومة إجرائية محددة، فتعود الي فشل جميع المبادرات الداخلية والإقليمية في وقف الحرب، أو على أقل تقدير الوصول إلى مرحلة وقف إطلاق النار مستدام، مع فتح الباب أمام العون الإنساني للمتضررين من المدنيين، حيث لم تحقق المنابر المدعومة أمريكيا المأمول، وهما منبرا: جدة، والإيجاد، رغم فاعلية المملكة العربية السعودية في منبر جدة، وفاعلية إثيوبيا و الاتحاد الإفريقي في الثاني، أما منبر دول جوار السودان الذي أطلقته مصر، فقد وجد من التعقيدات، ما يفقده الفاعلية المرجوة حتى الآن.
وعلى صعيد مواز، فإن ما يجعل خيار الإشراف الدولي مطروحا في التوقيت الراهن، هو طبيعة الانتهاكات التي تم تنفيذها، ضد المدنيين بوحشية في كافة مناطق القتال، والنزوح الجماعي للسودانيين داخليا وخارجيا، جعلت الثقة في الأطراف المتصارعة على الصعيد الشعبي مفقودة كفاعلين، يمكن الثقة فيهما لبناء دولة ما بعد الحرب، كما أن الثقة العامة في النخب السياسية السودانية، ومدي جدارتها في إدارة تنوعه وتعقيده مفقودة تاريخيا في السودان .
وطبقا للمشار إليه سالفا، فإن فكرة الإشراف الدولي على السودان لا تقتصر على مخططات دولية، ربما تكون موجودة، بل أن هناك أصواتا داخلية، تنادي بها انطلاقا، من أن تفاوض الطرفين المتصارعين، لا يعني على الإطلاق حلا للأزمة، بل ربما سوف يعيد إنتاجها بطبيعة توازنات القوى الراهنة على الأرض، وقد أورد هذه التقديرات على نحو شامل فيصل محمد صالح وزير الإعلام السوداني الأسبق في مقال، أظنه فارقا، تحت عنوان مبادرات دولية أم إقليمية، وهو المقال الذي أسهب فيه عن الأصوات الداخلية الداعية لإشراف دولي أو وصاية، تدير حكما مركزيا للسودان لمدة لا تقل عن عشر سنوات، وذلك في خطة تفصيلية طرحها مدير جامعة الخرطوم الأسبق د. مهدي أمين التوم، وهو المنحدر من أسرة، تملك تاريخا سياسيا وطنيا غير مختلف عليه في السودان، وهو طرح، يذكر، كما يقول فيصل بطرح د. علي مزروعي الأكاديمي الإفريقي ذو الأصول الكينية، والجنسية الأمريكية، والمشهود بقيمته الفكرية في الأوساط الأكاديمية الإفريقية.
في ذات السياق طرحت جبهة محامي دارفور تدخلا من جانب الأمم المتحدة، يسمح بوجود قوات دولية للأمم المتحدة، تفصل بين القوات المتحاربة تحت ولاية الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو الفصل الذي يتيح استخدام القوة المسلحة، وهو أداء سبق اختباره في دارفور، فيما يعرف ببعثة اليوناميد، اعتبارا من عام ٢٠٠٦ بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي.
السيناريو الثالث، هو سيناريو الفوضى وامتداد الصراعات المسلحة على أكثر من صعيد، وطبقا للحسابات الضيقة لكل قوى عسكرية فاعلة على الأرض، ذلك أن تسليم القوات المسلحة والقوى السياسية والاجتماعية والقبلية التي تدافع عنها بتوازنات القوى العسكرية الراهنة التي يتفوق فيها الدعم السريع، لن يكون متاحا على المستوى المنظور، من هنا نستطيع أن نفهم، أنه يتم حاليا تسليح مدنيين سودانيين على أسس سياسية أو قبلية، وهذا السيناريو، يعني في الأخير انهيار دولة السودان رسميا وفعليا على النمط الصومالي، حيث من المتوقع أن يظهر أمراء حرب جدد طبقا لخرائط الموارد من جهة، وتطلعات التنظيمات الجهادية من جهة أخرى، والأخيرة تملك خلايا نائمة، تم تفعيل بعضها مؤخرا.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو موقف القاهرة من جملة التفاعلات السودانية في المرحلة الأخيرة؟ حيث لوحظ صمت سياسي مصري عن المجريات السودانية العسكرية، يقابله اهتمام إعلامي من جانب الفضائيات المصرية لا يمكن نكرانه، رغم أن الاتجاه الإعلامي العام يركز حاليا على غزة، دون غيرها.
هذا الصمت كان من المتوقع كسره مع التطورات العسكرية الأخيرة، خصوصا في ود مدني التي تتميز تاريخيا بوجود مصري فيها للأقباط خصوصا، ووجود كتلة سودانية نازحة من أماكن أخرى، وكون ود مدني أيضا عاصمة الولاية الزراعية الأهم في السودان، وهي ولاية الجزيرة.
نتساءل هل سلمت القاهرة بدور دولي في السودان، بعد أن ثبت أن الجيش السوداني، عبر طبيعة تحالفاته السياسية وممارسته العسكرية، وكذلك المقدرة على اختراقه من جانب الأطراف المعادية، بشكل واسع، لا يملك القدرات اللازمة؛ ليكون رافعا لتحرك مصري في السودان يملك شروط الفاعلية والنجاح؟