احتضنت القاعة الخامسة عشرة في الحي الثقافي كتارا بالعاصمة القطرية الدوحة ندوة بعنوان “المتنبي الطائر المحكي” قدمها الأديب السوداني و الأستاذ الجامعي الدكتور الصدّيق عمر الصدّيق أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة الخرطوم. الندوة قامت بمبادرة من المركز الثقافي السوداني و جمعية اللغة العربية في قطر ومركز حوكمة ، و قد قدّم الندوة باقتدار الأديب و الناقد القطري الأستاذ جمال فائز.
د. الصديق الذي نال درجة الدكتوراة في اللغة العربية في تخصص الأدب القديم تحديداً و كانت أطروحته للدكتوراة في الشاعر سحيم عبد بني الحسحاس ، قدّم محاضرة رفيعة المستوى عميقة المعاني و الدلالات عن أبي الطيب الشاعر الفذّ. و إن كان المعروف و الشائع عن المتنبي هو الاكليشيهات المعتادة على شاكلة هجوه لكافور الإخشيدي و قصيدته الأشهر: الخيل و الليل و البيداء تعرفني.. فقد خلت محاضرة د. الصديق عن كل تلك القوالب الجاهزة و الوجبات السريعة في المعرفة ، و لكنها احتوت على غوص عميق في شخصية المتنبي الشاب و معرفته العميقة بأسرار حياة البادية و التي أمضى فيها سنوات عديدة و استشهد بأمثلة دقيقة لذلك من أن النمل قد يقتل شبل الأسد و أن هناك أماكن معينة أثناء هطول لا تنزل فيها قطرة واحدة من المطر.
استرسل محدثنا في استعراض شخصية المتنبي المعتد بنفسه لدرجة الغرور مستشهداً بالكثير من القصائد و أكثرها دلالة عن الزهو بالنفس على شاكلة
وما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا
وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا
أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى
و تعرّض أستاذنا الموهوب لسر خلود و ذيوع قصائد المتنبي ذلك لأنه جسّد فحولة الشاعر العربي و اعتداده بنفسه لدرجة أنه اشترط على سيف الدولة الحمداني أن لا يُقبّل الأرض بين يديه و أن لا ينشد شعره إلا و هو جالس عكس ما جرت عليه العادة بين الشعراء و هم في حضرة الملوك و الأمراء.
و دلف محدثنا الدمث إلى تجليات تأثير المجتمعات التي عاش فيها المتنبي على شعره ، و كيف أنه تعلم من أهل مصر روح الدعابة و القفشات و انعكست في أشعاره. و بيّن أن من مواطن إبداع أبي الطيب إحكام الصياغات الشعرية ، بحيث تنساب التعابير بين يديه في سلاسة و إتقان حتى يخيل للمرء أنه هو من ألّف تلك الأقوال المأثورة بينما كانت قدرته المبهرة في نسجها في صياغات محكمة صارت مضربا للأمثال بين الناس إلى يومنا هذا على شاكلة
وقد فارَقَ الناسَ الأَحِبَّـةُ قَبلَنا، وأَعيا دواءُ المَوت كُلَّ طَبِيبِ
أو قوله
ومـن صَحبَ الدُنيا طَويلًا تَقَلَّبَـتْ على عَينهِ، حـتَّى يَرَى صِدْقَها كِذْبًا
و انتقل بنا د. الصدّيق إلى مشهد رحيل جدة المتنبي و هي تتحرّق شوقاً لرؤيته بعد أن مُنِع من دخول الكوفة كي يراها فبعث إليها بكتاب ينبئها بذلك فلما قرأته بكت ثم أصابتها الحمى فماتت جدته وجْداً و شوقاً إليه و كان يحبها حبا شديداً
فأنشد.. قائلاً
أَلا لا أَرى الأَحداثَ حَمداً وَلا ذَمّا
فَما بَطشُها جَهلاً وَلا كَفُّها حِلما
إِلى مِثلِ ما كانَ الفَتى مَرجِعُ الفَتى
يَعودُ كَما أُبدي وَيُكري كَما أَرمى
لَكِ اللَهُ مِن مَفجوعَةٍ بِحَبيبِها
قَتيلَةِ شَوقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصما
أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها
وَأَهوى لِمَثواها التُرابَ وَما ضَمّا.
حتى وصل إلى البيت القائل…
وَلَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ
لَكانَ أَباكِ الضَخمَ كَونُكِ لي أُمّا
و هنا توقف د. الصديق مليّاً عند هذا البيت قائلاً إن العميد طه حسين فسّره بأن نسب أبي الطيب نسب غير شريف ولكن الأستاذ محمود محمد شاكر و هو باحث مُجد يرى أن ذلك البيت يوضح بجلاء كرم محتد أبي الطيب و أضاف مستدلاً ببيت آخر أعقب هذا البيت يقول فيه
و إنّا لمن قوم كأن نفوسهم بها أنَفٌ أن تسكن اللحم و العظم
أعقبت الندوة مداخلات عميقة من الضيوف الذين جاؤوا من بلدان عربية مختلفة كقطر و موريتانيا و مصر و العراق و السودان.. وأسرّ لي الصديق الدكتور محمد وليد وهو استشاري عيون سوري الأصل سوداني الثقافة أن د. الصديق كنز معرفي يجب أن يروج له.. و قد صدق.
امتلأت الصالة بالحضور لدرجة أن الكثيرين آثروا الوقوف لمدة طويلة لجزالة الطرح و قوة العبارة و روعة الإلقاء. لا يسعني هنا إلا أن أعبر عن كل الإمتنان لمنظمي هذه الندوة الجميلة خاصة الجمعية القطرية للغة العربية و المركز الثقافي السوداني في الدوحة و مركز حوكمة. و يقيننا أن لهذه الندوة ما بعدها فقد مدت جسوراً ثقافية متعددة بين الجالية السودانية و غيرها من الجاليات العربية و وضعت الحراك الثقافي السوداني في بؤرة الاهتمام.
د. أمجد إبراهيم سلمان
ع9 يناير 2024
Whatsapp 0031642427913
amjadnl@yahoo.com