كان مكتبي في الخرطوم يفتح على مبنى السفارة الأمريكية القديم في شارع علي عبد اللطيف. لذلك كانت عربات السفارة تصف أمام مكتبي وأمام مبان أخرى تتبع لنا في جامعة النيلين.
ذات صباح كنت أستقبل وكيل الجامعة مع موظفين آخرين، ووقفنا في الشارع نتشاور في أمر يخص مباني الجامعة، فأتانا أحد حرس السفارة يأمر بفظاظة لمغادرة هذا المكان. قلت له رافعا صوتي: بل أنتم من يجب أن يبتعد عن المكان لأنكم تضايقوننا في حمى الجامعة. في لحظة اجتمع علينا حراس السفارة وأرادوا أن يبعدونا بالقوة، فتمسكت بموقفي صارخا فيهم. تدخل الوكيل وأنقذ الموقف بأن أمرني بالهدوء وتدبر الأمر فيما بعد.
في اليوم نفسه أرسلت مذكرة إلى مدير الجامعة أطالب بمنع عربات السفارة من الوقوف أمام مكاتبنا. وعلى الفور رأيت السفارة تزيل منزلا قديما يقع شمال مبناها وتتخذه مرآبا خاصا لعرباتها.
لم تنته القصة إذ تلقيت دعوة من السفارة على عشاء في مقر إقامة القائم بالأعمال.
أبدأ بهذه (الرمية) على طريقة الدكتور عبد اللطيف البوني، بمناسبة ما تردد في بعض وسائل التواصل أن أمريكا أصدرت قرارا بتصنيف قوات الدعم السريع (جماعة إرهابية).
الصحيح أنه صدرت إدانات من أمريكا للدعم السريع، أما قرار التصنيف بالإرهاب فلم يصدر.
في يونيو ٢٠٢٣ قال ماثيو ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية إن “الولايات المتحدة تدين بأشد العبارات الانتهاكات والإساءات الجارية لحقوق الإنسان والعنف الرهيب في السودان، وبخاصة التقارير التي تحدثت عن ارتكاب عنف جنسي واسع النطاق وعمليات قتل على أساس عرقي في غرب دارفور من قبل قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها”.
وفي فبراير ٢٠٢٤ طرحت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين والجمهوريين مشروع قانون يصنف «أفعال قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها في دارفور ضد المجتمعات العرقية غير العربية على أنها إبادة جماعية».
وقال المشروع في نصه إن مجلس الشيوخ «يدين الفظائع، بما فيها تلك التي تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية، التي ترتكبها قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها ضد قبيلة المساليت وغيرها”.
ولا نعرف ما الذي صار إليه مصير ذلك المشروع الذي تضمن أيضا تحميل القوات المسلحة السودانية دورا في ارتكاب الفظائع والكوارث الإنسانية لعدم تحملها مسؤولية حماية المدنيين.
لو يحصل تصنيف من الولايات المتحدة لقوات الدعم السريع أنها جماعة إرهابية، فهذا تطور مهم له ما بعده.
الوثائق التي تصدر عن الجهات الأمريكية حول انتهاكات الدعم السريع متحفظة في الغالب.
في السبت ٤ نوفمبر عندما هاجمت قوات الدعم السريع منطقة أردمتا في الجنينة، صدر أولا بيان شديد اللهجة من أمريكا يدين الجرائم الوحشية، وسرعان ما حذف ذلك البيان وأعيد نشره بلهجة مخففة بعد حذف فقرات منه.
لا ينتظر من الإدارة الأمريكية أن تصف جهة بالإرهاب ما لم يكن ذلك يخدم سياستها.
أليس ما تقوم به إسرائيل في غزة مع المدنيين إرهابا؟
إن أغرب تعريف للإرهاب هو ما رأيته في كتاب لجراهام فولر نائب رئيس مجلس الاستخبارات القومي يقول فيه: “الإرهاب هو ما تقول أمريكا إنه إرهاب”.
الكتاب بعنوان: عالم بلا إسلام صدر عام ٢٠١٠ وجاء تحليل الكاتب منصفا ومنطقيا إذ ناقش مثلا كتاب “صدام الحضارات” وانتقده بشدة قائلا: “إن مؤلف الكتاب استخدم عبارة غير مناسبة عندما ذكر “حدود الإسلام الدامية” ويوضح أن الإسلام خارج مكان ولادته فى الشرق الأوسط تعامل وتفاعل مع أربع حضارات كبرى رئيسية عندما اتصل بها وأقام أشكالاً من التعايش السلمى وهي الحضارات التى كانت في روسيا، وأوروبا، والهند، والصين، وأن معظم القضايا الخاصة “بحدود الإسلام” هى ليست فى الحقيقة حدودًا، ولكنها تمثل علاقات المسلمين داخل اتفاقات غير إسلامية خاصة عندما يكونون أقلية، إذ يطورون علاقات خلاقة فى هذا المجال”.
والمؤلف واضح حين يرجع سبب كراهية المسلمين وآخرين للغرب إلى ما قام به الغرب من غزو واستعمار، واستغلال المصادر، والعجرفة، وعدم احترام الثقافات غير الغربية، وأن الإدارة الأمريكية قد ولدت مزيدًا من المعاداة للولايات المتحدة.
إن التدخل المكثف من الغرب في شؤون دول الشرق الأوسط هو الذي صنع مشاعر العداء للولايات المتحدة في الشرق الأوسط كما يقول الكتاب.
واقترح المؤلف استراتيجية بأن على واشنطن أن تعمل كما لو أن الإسلام غير موجود في هذا العالم. ويختم بقوله إن الدين لم يكن يستطيع أن يفعل أسوأ مما فعلته قوى غير دينية من تطرف عنيف قتل الملايين في حربيين عالميتين شارك فيها الفاشيون والنازيون والشيوعيون.
سألنا القائم بالأعمال الأمريكي وكان اسمه تيموثي كارني في ذلك العشاء الفاخر: سمعنا أن حكومتك أبلغتك بمغادرة الخرطوم لأنها غير آمنة والانتقال إلى نيروبي، ونحن نراك تمارس رياضة الركض في شوارع الخرطوم في أمن وأمان؟ رد علينا بنصف ابتسامة: إذا قال الكونغرس أن الخرطوم غير آمنة فهي غير آمنة.