يقال أن لكلّ من اسمه نصيب، وتقول العرب في معنى “التاج” بأنه لباس الرأس للملوك. وتضيف كان استخدام التاج معروفا من أول نشأة الإنسان وذلك لأن حب الزينة غريزة من غرائزه وقد أشبع «الإنسان» الأقدم هذا الميل فيه بالزهور التي كان يجدها بين يديه وكان أخص أنواع الزينة عند الأقدمين وضع تاج من «الزهور» على الرأس. (وتاج السر ) في عرف المتصوفة درجة عالية من درجات السمو في مدارج السالكين. ولديهم السر وسرّ الأسرار وهو عند الصوفية حالة تجل وعرفان نفسي إيماني مرده إلى كثرة الذكر وتدبر المريد وشعوراته وأذواقه ضمن مقام الإحسان. ومقام الإحسان درجة يصبح فيها الإنسان ويمسى في حضرة إلهية مع الله بحيث يكون في حالة محبة وخشية ومعادلة إن لم تراه فإنه يراك. وكذلك كان الراحل المقيم تاج السر حسن عيسى كرم الله كركساوي.
جمعتني بالمرحوم تاج السر عشرة الأيام التي مضت سريعا تطوي في سجلاتها أجمل الناس وأعزهم وأركزهم وأنقاهم سيرة وسريرة.
كنت والدكتور عبد المحمود أبو الدكتور تيمان والشيخ آدم أحمد يوسف والمرضب صالح في زيارة إلى الحبيب تاج السر في شقته بالقاهرة وجلسنا إليه وتحدثنا معه لبعض الوقت، وكان متفائلا بنتائج الفحوصات الطبية وغادرنا المنزل ونحن سعداء بعيادته ورؤيته. وفي مساء اليوم التالي أبلغت عن وفاة التاج وصعوده إلى رحاب ربه، عن عمر تجاوز السبعين بقليل، وهو عمر في زماننا الحاضر ليس سوى عدد، إذ بعض الناس يعيش إلى المائة ومع ذلك يمارس حياته الطبيعية. ولكن لكل أجل كتاب. فقد رحل التاج بعيداً عن وطنه الذي أحبه ودفع أثمانا غاليه من أجل رفعته وحريته واستقراره. والعزاء أن الأسرة قررت نقل الجثمان إلى بورتسودان ليوارى الثرى في المدينة التي نشأ فيها وتفتح وعيه بين أهلها وأحبها كما لم يحب غيرها.
ولد الفتى الأمير تاج السر في أسرة كبيرة ،عرفت بالتجارة ثم بالإمارة. وهو حفيد الأمير كرم الله كركساوي الذي بايع الأمام المهدي في النيل الأبيض قبل أن يهاجر إلى كردفان. وولاه الإمام المهدي إمارة بحر الغزال كما يقول موسى المبارك في كتابه تاريخ دارفور، وكما يورد صاحب كتاب (صفحات من تاريخ المهدية) التجاني حسين دفع السيد الذي تناول في صفحات من تاريخ المهدية أحداث في الجنوب ودارفور وأدوار الأمراء كركساوي أخوان وأثرهم في المهدية. اهتم الكاتب بإبراز دور الأمراء كرم الله ومحمد وسليمان كركساوي في الثورة المهدية ونهوضهم بأمر الدعوة في جنوب السودان وخاصة في إقليمي بحر الغزال والاستوائية.
ويعرفنا باللحظة التي تحوّل فيها الأمير محمد كركساوي قائد البازنقر بجيشه إلى محاربة الحكومة الاستعمارية إلى جانب أخيه الأمير كرم الله وأبناء خاله النصري. وقد دوخوا الإنجليز وقتها ومرغوا أنفهم في التراب، حتى كتب لبتون باشا يصف الحالة الأمنية في بحر الغزال في أحد تقاريره قائلاً: «إن مديرية بحر الغزال في حالة يرثى لها بسبب انتفاضة المهدويين التي عمت أرجاء السودان.. وكل ما استطيع فعله هو أن أحول دون أن يقوم الدينكا والعرب من أتباع عبد الرحمن النصري وكرم الله كركساوي بالقضاء علينا جميعاً».
في هذا الإرث نشا تاج السر حسن كرم الله كركساوي نحو عام ١٩٤٦م.
فوالده الأمير حسن عيسى كان من المثقفين المناضلين ومن الاستقلاليين الذين ساندوا الإمام عبدالرحمن المهدي، ولهذا السبب كان تاج السر يحمل عبئا ثقيلا من الإرث النضالي ولديه ميل قوي لمناهضة الظلم والشموليات بدءا بعبود وليس انتهاءً بنظام الإنقاذ الذي وقف في وجهه حتى سقط.
تنقل الحبيب تاج السر بين مدارس بورتسودان وحواريها وتعرف على همومها وشارك في تطويرها وفي دعم أنديتها الثقافية والأدبية والفكرية والرياضية. وعمل فيها خلال شبابه الباكر ثم انتقل إلى العمل في شركة أرامكو العالمية ثم السعودية ضمن كوكبة من المهندسين السودانيين وخبراء الإدارة. وخلال الاغتراب والعمل مع شركة أرامكو أعاد اكتشاف الذات باكتساب مهارات جديدة قرر نقلها للأجيال الجديدة عبر التدريب حتى تقاعد في منتصف الألفية الجديدة.
تميز الحبيب تاج السر بميز يصعب أن تجتمع لإنسان واحد. فقد امتاز بالانضباط الصارم في الحياة وفي العمل وعلى مستوى الحضور في الوقت المحدد أيا كانت ظروفه. وامتاز بالصمت وحسن الاستماع ومراعاة مقتضى الحال. مثلما امتاز بشجاعة الرأي وقول الحق ولو كان دون الثمن خرط القتاد. وكان يأخذ كل تكليف بالجدية وبتطبيق فكرة تقويم الأداء على طريقة KPI ، ولذلك أي مسئولية تستند إليه تحقق أهدافها.
وعندما يغادر الإنسان هذه الدنيا فإن سيرته وأعماله والذكريات هي العمر الذي يخلده في حياتنا وحياة الآخرين.
عندما عاد التاج للسودان في قبيل ثورة ديسمبر ٢٠١٨م قال إنه يدخل تجربة مختلفة، في سودان مختلف، وكان متفائلا بأن السودان سيرتاد آفاق النجاح والنمو الاقتصادي من جديد. وكان متفائلا أكثر بالشباب وبالتدريب وبتطوير المهارات والسعي مع الجامعات المحلية لتكون لها صلة بالجامعات العالمية بقصد الاستفادة من الخبرات العلمية الحديثة والبحوث. وكان يرى أن ولاية البحر الأحمر تمتاز بميزات نسبية كبيرة ويجب استغلالها لصالح الإنسان. وكان يرى أن البحر الاحمر يمكن أن يستوعب مئات الآلاف من الأيدي العاملة في مجال صيد الأسماك وتصديره وفي مجالات السياحة والصناعة فضلاً عن التعدين.
من شابه أباه ما ظلم فكما فعل سلف تاج السر كان هو في جمع كلمة الناس وتوحيدهم وجمع صفهم وكان هذا نهجه حتى آخر لحظات حياته. ولا عجب. فقد نجح سلفه من ( أبناء كركساوي وأبناء النصري في استقطاب قبائل الجنوب لصالح الثورة ضد المستعمر وكان أبناء الدينكا يرون في الإمام المهدي «روحاً مقدسة» حتى بايع السلطان أروب بيونق جد الناظر دينق مجوك الإمام المهدي وتبعه السلطان ريان نوير والسلطان وال دور جوك.. والسلطان جوان مريال سلطان نيام ليل والذي دفع بإحدى بناته للإمام المهدي، مما يؤكد أن العلاقة بين الشمال والجنوب كانت تقوم منذ وقت بعيد على الاحترام والتمازج والمصاهرة.. وقد بلغ عدد السلاطين الذين بايعوا الإمام المهدي أكثر من اثني عشر سلطاناً.. وكذلك فعل الشلك وبقية قبائل الجنوب الكبرى.. وقد لعب رث الشلك يور أكوك دوراً مقدراً في دعم الدعوة المهدية. سلام على الحبيب تاج السر في عليائه وسلام عليه يوم يبعث حيا.
مراجع
-موسى المبارك الحسن بعنوان تاريخ دارفور السياسي، ط 1995م دار الخرطوم للطباعة والنشر..
-صفحات من تاريخ المهديه التجاني حسين دفع الله