بعد مرور عام على الحرب الدائرة في السودان، التي لم تكن وسائلها – ضمن وسائل أخرى – وقفاً على إدارة معاركها العسكرية، في أزمتها السياسية، وما قادت إليه من نتائج كارثية، فقد دخلت عوامل ثقافية ومجتمعية ضاعفت من وتيرتها وعجلت بالتالي مما يخشى أن يؤدي إلى تقسيم البلاد. ولأنها حرب استخدمت فيها كل ما يمكن أن يعبر عنها، شملت مواقف وكتابات لمثقفين وأكاديميين وصحافيين وناشطي التواصل الاجتماعي، انحيازا إلى أحد طرفي النزاع، تعبيراً عن الانتماءات المناطقية والعرقية بالأساس، وفق تفسير قد يحتمل التصنيفات الثقافية في منظورها الإنثروبولوجي، أكثر من أي احتمالات أخرى، تأخذ بالمعايير الوطنية أو السياسية والأيديولوجية.
ولكن هل ينعكس هذا النزوع الانفصالي على مستقبل السودان، بوصفه دولة على ما بقي فيها من جيوب منفصلة، قد تعود بسبب الفراغ الذي خلفته الحرب؟ وشكلت هذه الواجهة الثقافية للحرب اتجاهاً نحو التقسيم، بما احتشدت من تهييج اجتماعي واسع وجد في الحرب تبريراً مرغوبا فيه للبعض.
برزت الدعوة إلى التقسيم وفصل جزء من البلاد كحل من بين الحلول المنبعثة عن نتائج الحرب نفسها، بكل ما أحدثته من شرخ مجتمعي بين مكونات الجماعات السودانية، بقبائلها وتمدداتها الإثنية المختلفة، وما تبعه من انهيار للدولة ومؤسساتها الهشة، استجابة لدعوات الانفصال التي تصدر عن جماعات على جغرافية إقليمية بما يشبه الدولة العضوية بديلاً عن الدولة المركبة، التي عرفتها دولة السودان، في الـ56 بمشكلاتها المتوارثة التي يقاتل الدعم السريع على تقويضها، أو بديلها المتصور في خطابه السياسي. والواقع أن الحرب كانت عرضاً ولم تكن سبباً في إيثار الانفصال على أساس من التمييز العرقي، فإذا كان جنوب البلاد قد انفصل بعد حرب طويلة عام 2011، تأتي الدعوة إلى الانفصال في ظل الحرب الحالية، لتمتد جذورها إلى بدايات أزمة الإقليم في 2003 وما جرته فظائع جرائمها المرتكبة بحق إثنيات محددة، من مواجهة مع العالم ومحاكمه الجنائية في النظام السابق. وإذا كانت الحرب وكل حرب تنتهي إلى مائدة التفاوض على دارج المفهوم المعمم سياسياً، يراهن السودانيون على العودة إلى ما قبل 15 أبريل 2015، وهو تاريخ مفصلي لن يعود معه واقع السودان كما كان بالافتراض النظري أو الرغبة غير الواقعية. ثمة حلان في أفق الأزمة السودانية، بين الحل المجتمعي الانفصالي، الذي تقوده كتائب الميليشيات، والآخر التفاوضي الذي يجبر الدولة بأمر الواقع، أو نتيجة معارك جيشها في أرض المعارك، وكلاهما لن يفضيا إلى سلام دائم أو ما يمكن اعتباره نهاية للأزمة. الجزء الذي يراد فصله هو ولاية دارفور، التي أصبحت مصدراً لمتاعب الدولة السودانية كما يروج في الخطاب الشعبي، الذي تتبناه اتجاهات سياسية بارزة، وإقليم دارفور الذي تقدر مساحته بمساحة دولة أوروبية كفرنسا بموقعه في حزام الهامش السوداني في أدبيات السياسة السودانية بالمناطق المهمشة تنموياً وسياسياً، ويعد نموذجاً على فشل الدولة السودانية وهيمنتها المركزية. وعلى ما يحاجج دعاة الفصل من تبريرات، فإن دارفور تدخل ضمن مسار تاريخي طويل، في تنازع سلطة المركز منذ خمسينيات القرن الماضي. والتهميش يشكل حزمة من مناطق وثقافات تتعدى دارفور، لتشمل مناطق أخرى في الشرق والغرب والشمال الأقصى، الذي تتساوى وتختلف في درجة التهميش ومعاييره، إلا أن دارفور لها خصوصية في التهميش، وما أضافته الحرب من بعد اجتماعي، بما مثله من انتماء منتسبي الدعم السريع، أو ما بات يعرف بالحاضنة الاجتماعية. بعض من سيناريوهات تقسيم دويلات الحرب مناطق رسمتها الخطابات الشعبوية على منصات التواصل الاجتماعي، ووجدت في ظل انحطاط الخطاب السياسي وفجاجته من يتبناها على مستوى أعلى في صنع القرار، ودخلت دعوات التقسيم بالتالي، من حديث مسكوت عنه إلى خطابات احتجاجية صارخة. ونتجت عن هذا التهميش جماعات شكلت التعبير السياسي العنيف على خلفيات الانتماءات العرقية، فلم تتطور الوسائل التشريعية في الدولة على الأخذ بمبدأ التمييز الإيجابي لامتصاص غضب، وإتاحة الفرصة لتمثيل الجماعات التي تعجز آليات الحكم عن إيصال صوتها المكتوم، كحالة الهند، رغم أن الهامش هنا أغلبية، لم تستنكف من أن تطلق على نفسها «الأغلبية المهمشة» في بادرة غير مسبوقة للتعبير عن اليأس، حين تختل موازين التقييم التي لا يجدي معها حجم السكان مهما ثقلت موازينه. وفي السياق السياسي لإدارة الأزمة المستفحلة ربما لم يلتفت الساسة السودانيون للانفصال أحد أهم تداعيات الحرب، وأشدها تأثيراً في الفضاء العام، بقدر انشغالهم بإيجاد حل تفاوضي باستخدام الوسائل القديمة لحل واقع جديد، لم تعد لديه قابلية الاستجابة وسط ضجيج دعوات الكراهية والفوضى التي عمت البلاد. ومن جانب آخر تقلص الدور المدني في حوارات السلام ومفاوضاته، وترجح الحل العسكري الذي سيزيد وطأة الأزمة ويساند دعوات الانفصال، بالإضافة إلى أن المناخ الذي يحيط بالأزمة السودانية إقليمياً ودولياً على درجة أولويتها، ودخول أطراف إلى جانب الطرفين، قد حول من اتجاهات الأزمة على صعيد المسرح الدولي، فقد شهدت الأيام الماضية أزمة دبلوماسية مسرحها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، حيث تقدم السودان بعقد جلسة طارئة متهما دولة الإمارات بدعم قوات الدعم السريع، الأمر الذي نفته في بيان خارجيتها.
إن الحرب السودانية التي صنفت بالحرب الأهلية وكانت صراعا سياسيا على السلطة، تجاوزت في مداها الزمني محاولات الحلول التي بدت طارئة عند بداية الحرب، ومن ثم وصلت إلى مرحلة يصعب على أي جهد محلي وضع حداً لنهايتها المأساوية. وبفشل المبادرة التي استؤنفت أكثر من مرة، منذ تفجر الصراع داخلياً، وازدادت بالتالي حدة الاستقطابات الداخلية، ودخول مجموعات ظلت فترة على الحياد، ومنها حركات دارفور المسلحة التي عادت إلى الوقوف إلى جانب الجيش، وهذه الارتباطات الجديدة بين الحكومة العسكرية والحركات يقابلها رفض شعبي حاد لمكونات هذه الحركات العرقية. يشبه هذا التحالف الجديد بين الحركات والجيش قسمة السلطة على مستوى المناصب ذات التمثيل السياسي السيادي، التي درجت عليها الحكومات السودانية المتعاقبة بتقريب الجماعات المهمشة، ولكنها لا تغير من ثبات الرؤى الحاكمة إلى مدى أن تصبح واقعاً يتعاطاه الجميع. فمحاولة التعبير عن طريق المناصب تبدو محاولة عبثية لقيادة زمام مبادرة في محيط لا تسيطر على مفاصله كما تقتضيه قوانين القوة؛ بل أصبحت المناصب أداة تستخدم لإسكات صوت الهامش وحجة على عدالة المركز في توزيع الفرص!
إن مسار الحل التفاوضي بصيغته الثنائية بين طرفي الأزمة، لن يفضي إلى حل شامل للسلام ويكون الحل الجزئي منقوصاً مشوباً بالحذر إذا لم يأخذ في مساره الأطراف الأخرى. والأطراف الأخرى منها ما يشكل تعويقاً لمسار التفاوض السلمي لإنهاء الحرب مثل الميليشيات والتكوينات السياسية الأخرى المسلحة والمدنية التي تقف وراء حسم المعركة عسكرياً على خط الجيش، وبعضها معارض لاستمرار الحرب ممثلاً للكيانات السياسية، أو ما تعرف بالقوى المدنية ومنظماتها المختلفة، إلا أن اقترابها من صعيد الأزمة على مستوى الداخل قليل التأثير. وبهذا الموقف بتعقيداته قد يجعل من استمرار الدعوات للتقسيم، أمراً واقعا لمرحلة ما بعد توقف الحرب إن توقفت تفاوضياً إذ أن ملامح التقسيم التي تحددت بنتائج الحرب، أكثر تأثيراً على مستقبل السودان من أي مخرجات قد يتوصل إليها المفاوضون.
كاتب سوداني
نشر بالقدس العربي# الإثنين 06/05/2024
nassyid@gmail.com