زارني البارحة مشكورا مأجورا في مقر إقامتي المؤقتة بمكة المكرمة..الشيخ الأستاذ الدكتور عثمان ابوزيد المستشار الإعلامي لرابطة العالم الإسلامي ..الوزير وأمين عام مجلس الصحافة ورئيس مجلسها سابقا…فكانت جلسة تاربخية طوق عنقي بها.. وأتحفني في ختامها بأن أهدى إليَّ كتابا من تأليفه
عنوانه : (من طرائف الحجيج)
وسأورد هنا بعض مفاكهات المؤلف مضيفا إليها بعض ما جادت به الذاكرة ، تاركا أكثرها لمن يقتني الكتاب للاستزادة…
ومع أن أمر الحج امر جد ومنسك مشقة ومجاهدة وصبر خصوصا في الزمان القديم...إلا أن من ذكاء الداعية أن يستثمر الأثر : (روحوا عن القلوب ساعة وساعة).. فيصحح بعض الأخطاء والمفاهيم في هذا المنسك عن طريق ماوقع فبه لبعض الناس من الطرائف والمفارقات.. وذلك أحد مقاصد هذا الكتاب.
ظل المؤلف يمزج الطرائف القديمة بالحديثة ببراعة ؛ ويصحح المفاهيم بدراية ؛ فالناس والمكان واحد ، وإن اختلف الزمان ؛ فساق خبر سيدنا عبدالله بن عمر (ص٦٧) ؛ حين رأى رجلا بحمل امراة عجوزاً على ظهره ويطوف بها البيت الحرام فقال له : من هذه؟ قال له : إنها أمي. أتراني قد وفيتها حقها يا ابن عمر؟ فقال له ابن عمر : والله مهما فعلت بها فلن يعدل ذلك طلقة واحدة من طلقتك فيها ساعة ولادتك…فتذكرت عجوزنا السودانية التي ساندت الفتوى بالحجة…فقد ذكروا أن شابا حج بأمه يحملها على ظهره في جميع المناسك…فمر بأحد علماء الحرم وقال له مفتخرا : هذه أمي قضت مناسكها كلها على ظهري فهل بقي عليَّ شيء من برها ؟ فمازحه العالم قائلا : لعلها تريد العرس؟ فصاح الصبي غاصبا: يامولانا عرس شنو دي اتعدت التمانين وماشه على التسعين؟؟!! فقاطعت العجوز ابنها غاضبة وقالت : ياولد !!! إنت بتعرف أحسن من علما مكة ؟؟!!!!
وجاء في الكتاب أن أحدهم ذكر قصة زوجة عمه التي رفضت رجم الشيطان في اليوم الثاني(ص٤١) يبدو أنها انزنقت في اليوم السابق…فذكرني قصة والدة زميلنا (كبيرة وجسمها ثقيل مترهل) قال لها : (قومي يمه نمشي نسعى بين الصفا والمروة …فقالت الأم : هي يا يابا سجمي..نعل ما البرندة الطوييييلة ديك….؟!!!
ومن عظيم الأخبار التي ساقها المؤلف أن أحدهم حج نيابة عن القائد الفذ مشتت جموع الصليبيين صلاح الدين الأيوبي.. وقد تكون المحبة والوفاء هما الدافع لهذا المحسن ؛ فإن صلاح الدين شغلته أمور جسام عن زيارة البلد الحرام..ولكن الشيخ حياتي بن محمد العربي الراوي ومادح جناب الحبيب صلى الله عليه وسلم ، منعته من الحج الإرادة والقدرة …(مانعاني الإرادة والقدرة ماهلاني) على الرغم مما تفيض به أشعاره من الشوق والحنين والوله والتعلق بالحجاز وساكنيه وتمني الحج والزيارة والمجاورة…فحركتني واحدة من مدائحه البارعة المؤثرة فأبكتني و أبكت من معي فنذرت له حجة و وفقني الله للوفاء بنذري ، فحججت عنه.. سائلا الله القبول..ذكرت ذلك للمناسبة وتحدثا بنعمة الله..
وحين مر الدكتور بالشبرية التي يطوف عليها بعض العجزة محمولين عليها..إلى زمان قريب…يحملها قوم ضخام طوال من جنسيات إفريقية.. ينبهون الطائفين ويحذرونهم ليفتحوا لهم الطريق بقولهم : (كشب كشب) أي (خشب خشب).. تذكرت جدنا حاج الصديق…رجل أصلع أبيض اللون متعصب لقبيلته.. لاتخرج كلمة (عبد) من فمه كلما تشاجر مع وافد أو أسمر.. فيسبب بذلك حرجا لأبنائه ورفاقه…حج جدنا هذا وصحبه في الطواف شقيقنا عبدالله…وما شعرا إلا برِجل الشبرية تخبط صلعة جدنا الصديق حتى قعد وقام واسشتاط غضبا وكاد أن يطلق لفظته المعهودة ..فلما رآه اخونا عبدالله متحفزا لإطلاق شتيمته المعهودة ، بادره قائلا : حج ياحاج ، حج ياحاج..فتوجه إلى عبدالله قائلا: نان شوف العبد فسِدتو(فساده) فقالها رغم التحذير من الرفث والفسوق والجدال في الج..
وتاب الله على أحد اهل الموبقات عندنا فحج وبرفقته زميل صبا ، فقال مازحا : لما رفع فلان يده ليرمي جمرة العقبة قال : (الشيطان قال ليه : أفو بافلان..ده إنت الأنا خات إيدي عليك) (يعني معتمد عليك)..
ومن ذلك قلة معرفة بعض الحجاج بالعربية فيظلون يرددون العبارات خلف مرشدهم وهم لايعون مايقولون… وساق المؤلف من ذلك طرفا صالحا…ولكن بعض الزملاء من أهل مكة أقسم بالله أنه سمع حاجا يدعو ..وأمةٌ من الحجيج رجالا ونساء يرددون خلفه ( وارفع بها ذِكْري) وكلهم يفتح الذال والكاف من (ذكري)..وهي طامة…وإنما المعول على النية.
وكلها من الأمور التي ينتجها الجهل أو تمليها الغفلة…فقد قيل للجعلي : الأخ من وين؟ فقال : من جعل العزاها الله… فقيل له نان جعل دي بقت مكة؟ فرد عليهم برباطابية : واول مكة عزت بلا رجال؟…وقيل للشايقية التي رجعت من الحج : شفتِ زمزم؟ فقالت لهم : أيوه…مي المره القصيري؟؟!!! وكلهم خير من محسوبة أستاذنا المؤلف ؛ فقد قيل لها : بختك يايمه شفت بيت الله..فقالت لهم : ها…شِنُّم ببت؟؟!!..فِرِد اويضة!!! (تصغير اوضة )…يعني اوضة واحدة.
الكتاب لطيف الحجم ، لكنه عظيم الفائدة ، خفيف الظل ، طريف حقا ، جيد الإعداد والتبويب والضبط ، سليم اللغة والأسلوب..دل على صبر المؤلف في اقتناص الفوائد واصطياد الطرائف ، وحسن إلمامه بالمناسك وسداد منهجه في الدخول إلى الجد من باب المفاكهة…فالرجل أستاذ جامعي وخبير إعلامي وداعية متفرد ، بارك الله في أيامه ونفع به…
إبراهيم القرشي
غرة ذي القعدة 1445
9 مايو 2024