{حبيبي مرني بجدة، تزول عن قلبي الشدة}
▪︎▪︎ في تلك الأمسية من ذلك العام البعيد في فواتح الثمانينات وأنا على متن طائرة { الميدل ايست }المتجهة إلى مطار جده كان إحساسي وهي تحلق بعيدا عن أجواء الخرطوم كطائر تاه عن سربه في ليلة عاصفة، وظللت طوال الرحلة غارقا في هواجسي من الغربة بعيدا عن الأهل والأحباب ولم افق من غفوتي ، إلا والطائره تناور فوق أجواء جدة للهبوط، ورحت أطل من النافذة على المدينة التي بهرتني أضواؤها وكان مطار جده آنذاك في قلب المدينة. علقت شنطة ال {هاند باق} القديمة على كتفي وكان محتوياتها{سروال وعراقي وجلابية وطاقية وعمامة وحفنة تمر ولفافة { دلقانة } صغيرة من الحبة السوداء أودعتها الوالدة في جيب الشنطة خزيا للعين والحسد كما قالت.. التقيت خارج المطار بسوداني تفضل بتوصيلي إلى دار جمعية أبناء السكوت(بالشرقية) وكانت المملكه وقتها تعيش في ذروة طفرتها التنموية وتشهد رواجا كبيرا في سوق العمل لذلك تحصلت بسرعة على وظيفة بالخطوط السعودية، ووجدت في رحاب جدة{ الحب بضم الحاء ، والحب بفتح الحاء كناية عن الكرم} جدة مدينة جميلة وأنيقة تتدثر بالبحر وتلبس له أجمل موضات الأزياء وترفل بغنج ودلال ،تقابلك وأنت لم تكد تخطو خطواتك الأولى فيها برزاز من الرّطوبة كأنه فيض من دموع فرحة اللقاء، شواطئها تنبض بالحياة ليل نهار، هنا للحياة معنى ومغزي يعيشها أهالي البلاد الطيبة المبروكة وضيوفهم على نَوْل أيامهم الرّخية في ظلال واحة الأمن والأمان في ظل القيادة الرشيدة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمين..
ولأمواج البحر في جده ترانيم تناجي الوجدان ، شعرت براحة بال وبصفاء نفسي وذهني وكنت كلما أسوح في كورنيش جده أقف لأتابع تداخل زرقة مياه البحر اللازوردي في صفاء زرقة السماء عند منتهى حدّ النظر في منحنى الأفق وتمازجهما في مشهد كوني بهيج وأردد بتلقائية (سبّوحٌ قدوس)..في سواحل جده تداعب أنفي روائح شواء الأسماك المنبعثة من جنبات الشاطئ مختلطة بعبق ” الجبنة العربيه” الذي تثير فواحها مزااجي فأتذكر مقاطع أغنية فلكلوريه لقبيلة {الهدندوة} في شرق السودان وهم أصحاب مزاج وكييف للجبنة (سوي الجبنة يا بنية فوق ضل الضحاوية ، الجبنه التسويها حالف ما بخليها ، فنجان جبنة بي شماله يسوي الدنيا بي حاله} وجدة يا هوى الولهان غير..تتعالى في الأجواء ضحكات السمارمن جنبات الكورنيش بكوراليه منسجمة مع عذوبة أصوات الأطفال يلعبون ببراءة فوق رمال الشاطئ يقفزون برشاقة الفراشات المجنحه هناك وهناك تارة ، وتارة أخرى يجلسون وبنشوة مرح طفولي يبنون قلاعهم الرّملية ومن حين لآخر تحدث لنشات سريعة تبحر جيئة وذهابا على امتداد سواحل الكورنيش جلبة ضوضاء في المكان ، وجموع غفيرة من المصطافين داخل البحر يسبحون بمرح ..ومطاعم فاخرة على امتداد الكورنيش تقدم أشهى المأكولات ، إلى جانب أكشاك صغيرة حديثة على أرصفة الكورنيش تبيع وجبات سريعة ومرطبات ، وما أشهى الوجبات البحرية في قعدات أريحية محضورة تتناولها مع الأهل والأحباب فوق أرصفة كورنيش جدة وعلى الهواء الطلق..
▪︎ جدة يا هوى الولهان، دلال ومهابة (معذورة لو تكبرت ، مغرورة يا بخت الغرور ، من قدها بدر البدور}مدينة فارهة الابتسامة والبشاشة وتعشقها الحياة، تدمن السهر ولا تعرف التثاؤب، تسهد عيون عشاقها فلا تغمض لهم جفن ، وكان الشاعرالمحروم سمو الأمير عبدالله الفيصل من عشاق هذه المدينة الفاتنة، كان يجلس فوق صخرة الذكرى في كورنيش البحر ويبث لواعج شوقه وحنينه للحبيبه ويذكرها بالأيام الخوالي(يا حبيبي ظمأت روحي وحنت للتلاقي وهفى قلبي إلى الماضي وناداني اشتياقي ،أنا ظمأن الاقي من حنيني ما الاقي،فاسقني واملأ من النور ليالي البواقي ، طال شوقي وحنيني آه من طول حنيني، ياحبيبي هذه الصخرة جئناها صباحا ومساء وروينا قصص الحب عليها سعداء ، ما الذي فرق شملينا فصرنا غرباء، يا حبيبي آه من حايرأمالي ومن جائرحزني، فمتى تلقاك عيني أيها الغائب عني .. عد إلى الشاطيء نحيا فوق تلك الربوات ما تولى من عهود وأماني باسمات ، نشهد الدنيا على نور السنا والبشريات ، ونغني للهوى سر المعاني الخالدات}..وافتتن بهوى جدة عشاق كثيرون هاموا بحبها ومنهم الشاعر حمزة شحاته الذي رسم لوحة قلمية من عناقيد الكلم يتغزل في محاسنها( النهى بين شاطئيك غريق والهوى فيك حالم ما يفيق ورؤى الحب في رحابك شتى يستفز الأسير منها الطليق ، إييه يا فتنةالحياة لصب عهده في هواك عهد وثيق ، ويذوب الجمال في لهب الحب إذا آب وهو فيك غريق، فيك من بحرك الترفق والعنف ومن أفقك المدى والبريق).. وفاضت تباريح الوجد بالفنان فوزي محسون وبث عتابه للحبيبة وهو يستعيد زكرياتهما معا في جدة في أيام سلفت وعشقا كان مستحق ( نسيتنا واحنا في جدة ونسيت أيامنا الحلوة ، ولا عاد زله أو طله يحق الكم لنا الله، وسبحانو قدرو عليك) وتتعطرشواطئ جدة البهيجة بأنفاس الأحباب، ويا لها من مدينة فنانة تعشق الطرب الأصيل، هنا كانت وما زالت لمواويل الفنان الراحل طلاح مداح إيقاع وصدى {يا سارية خبريني عن ما جرى خبريني، وحبيبي ايش جرالو، ايش اللي شاغلو بالو ، هو حبيبي نساني والا غوا جو تاني) وهنا تشنف الأسماع ابداعات كوكبة من نجوم الطرب..
▪︎ في بعدي كان حين يستبد بي الحنين إلى جده ، يتواتر رهابا عبرالمدى صدى مقاطع أغنية أثيرة لفنان العرب محمد عبده كان يترنم بها صديقي { نضال الجفري نجل الأديب المعروف عبدالله الجفري} بنغيم فاهه العذب السمح في لحظات استرخاء من عناء العمل(حبيبي مرني بجدة تزول عن قلبي الشدة، منى عمري يطول عمري عشان نقضيه سوا بجده ، حبيبي لما بزهم لك ، أحن وانشغل أكثر ويزداد الفؤاد حيرة لو انك عني تتحير، منى عمري يطول عمري عشان نقضيه سوا بجدة، حبيبي قلبي في أبحر يموج الموج على خفقه)..
▪︎ {جده شئٌ من وحي الجمال} عبارة اقتطفتها من مقال لبلدياتي الأديب محمد سيد ود أمينة ، فحقا جده يا هوى الولهان زفرة شوق حرّى وتوقٌ روحٍ لمدينه غزت النفس واتحكرت في العمق العاشر ، حنين لجلسات أنسٍ في حضرة الذاكرة للمكان ومن رافقونا فيه يوماً حنين وشوق متجدد للمدينة التي تشبهني في رحابتها وعنادها وتفاصيلها التي تداعبني، هي تحفزني دوما بالامساك بالقلم لاكتب مثل هذه الخربشات المتواضعة..جدة الماضي الزاهر والحاضر الفاخر والغد الباهر، واوااه من عبقها الروحاني، جدة بوابة الحرمين الشريفين لملايين الحجاج والمعتمرين من غرجاء المعمورة، وللتاريخ حضور في حاراتها ببيوتها التراثية ورواشينها المميزه {حارة المظلوم وحارة الشام وحارة اليمن وحارة البحر} وبواباتها التاريخية الثمانية (باب المدينة ، باب جديد، باب مكة، باب النافعة، باب الصبة ، باب شريف، باب المغاربة وباب اليمن} وأحياء جدة الحديثة { المودرن }، عمارات شاهقة وشاليهات فارهة وفلل فاخرة وشوارع واسعة معبدة وأسواق عامرة ومولات ذاخرة بكل خيرات الدنيا ومنتديات نشطة ومقاهي ومطاعم فاخرة وفنادق عالمية..في سوق باب شريف كان ينعشني عبق الروائح السودانية (الخمرة والصندلية والسرتية والمجموع) وتعيدني أشكال وأنواع موضات الثياب النسائية السودانية والعراريق والسراويل والعمم والجلابيب الرجالية والمراكيب الفاشرية المدبوغة من جلود الأصلة والنمر المعروضة في المتاجر تعيدني إلى عز أيام (السوق الأفرنجي والسوق العربي في قلب الخرطوم) وأسماء موضات الثياب الرائجة في رفوف متاجرها آنذاك (رسالة لندن، والخرطوم بالليل، وأبو قجيجة) الخ ..
▪︎ رغم البعاد ما زلت أحمل ذكريات جدة كقنينة عطر في حلي وترحالي، ولا زالت أسماء أحياء جدة موكرة في الذاكرة {الشرفية ،الكندرة البغدادية، الرويس ، المشرفة، عنيكش، الهنداوية، بريمان ، العزيزية ، غليل، الثعالبة، الكرنتينة ، الجامعة، الربوة السليمانية، الروابي، الاندلس، الحمراء، الرحاب ، النسيم ، بني مالك، الفيحاء ، حي الورود ، حي الزهور ، النزهة ، السلامة، الشاطئ، الزهرة ، المحمدية، الروضة، الخالدية، البوادي ، الفيصلية، السامر ، المرجان، الصفاء ، النهضة، النعيم ، الخالدية ، تول، ذهبان، أبحر الشمالية وأبحر الجنوبية)..
▪︎وللرياضة كانت لها نكهة في جدة ومن حظي أن جمعتني زمالة العمل بالكابتن غازي كيال الحكم المعروف وكان اتحادي الهوى، والصديق عبدالفتاح سراج عضو مجلس إدارة النادي الإهلي والذي الحقني بعمل إضافي مسائي في النادي الأهلي، ولكن كما يقولون(اللي في القلب في القلب) فقد كان عشق(الاتي موج البحر تمكن مني حد النخاع) وكان كورنيش جدة يتحول إلى ساحة احتفال كرنفالي يسهر (الفانس) حتى الصباح في حالة فوز إحدي قمتي جدة (الأهلي أو الاتحاد) وتملأ أهازيجهم الأجواء(اتي يا موج البحر) والأهلاوية يرددون مقولة الأمير عبدالله الفيصل(انتوا بشر معكم عقول طول العمر ، طول الدهر ، جدة كذا أهلي وبحر).
▪︎▪︎يا الهي ،إنه الوداع ، كانت أمسية من أماسي جدة عام ٢٠٠٥م ، تجمع زملاء العمل بالخطوط السعودية لوداعي في حفل أعدوه في (شاليه) بابحر الشمالية..وما أصعب لحظات الفراق بعد زمالة ربع قرن من الزمان(يوبيل فضي) كانت من أجمل عهود الظل في العمر وسط كوكبة من الزملاء سعوديين ومقيمين من حنسيات مختلفه.. غشيتنى سحابة حزن دفين، ما أقسى إحساس أنك قد لا تلتقي بهؤلاء الصفوة مرة غخرى حين تتفرق بهم دروب الحياة، فرت دمعات فشلت في إخفائها وأنا أجيل النظر بحزن المفارق في وجوههم وتترى على شاشة خيالي أمكنه ومناسبات جمعتني بهم، وعيش وملح تقاسمناه.. سويا في أخوة ومحبة.. في شرود رحت غتابع سفينة كانت تبحر لحظتها في يم البحر تداعبها وتراقصها الأمواج الصاخبة، وأبحرت معها في توهان غفوتي لميناء {سواكن} لأسافر منها برا إلى قريتي المنسية في قاع العالم هناك في الشمال القصي من السودان..أواسي نفسي وأردد همسا:{ إذن إنها العودة بعد حصاد الخريف} يقول الروائي الطيب صالح (إنك لا تدخل المدن، ولكنك تغوص في أعماق ذاتك، بحثًا عن صور المدينة التي عشقتها في خيالك).. تقودك المشيئة يوم ما لمدينة وتعشقها لتبقى موكرة في القلب والذاكرة ، فتغادرها بحنين جارف بحلم الرجوع وعشم اللّقاء..وتلك المدينة الحلم هي جدة يا هوى الولهان..