(1)
تمهيد
صدق حدس الشريف الرضي أنَّ “آفَةُ الأَخبارِ” في “رُواتُها”؛ ولا جدال في أنَّ انتشار الوسائط الإلكترونية في زماننا الراهن قد أعطى مساحة كبيرة للكذابين والوضَّاعين والمنجمين؛ لينشروا رواياتهم غير المحققة دون رقيب عتيد، وبذلك تشاع الأكاذيب، ويصدقها السواد الأعظم من الناس، وينسجوا حولها رأيًا عامًا مشوشًا. وعندما تسيطر آفة الكذب على العقل الجمعي، يصعب إصلاح المجتمع، أو إقناعه بالحقائق الموضوعية التي تخدم مصالحه العليا. ومن المنحولات الشائعة عن أخبار الحركة الوطنية في السودان أنَّ الزعيم إسماعيل الأزهري عندما ذهب إلى مؤتمر باندونع، الذي نظمه أعضاء مجموعة كولمبو الخمسة (الهند، باكستان، وسيلان، وبورما، وإندونيسيا) في مدينة باندونغ الإندونيسية في الفترة من 18 إلى 24 أبريل 1955، وضع الزعيم الأزهري على سِنَّة قلمه منديلًا أبيضًا، وكتب عليه اسم السودان باللون الأحمر، وذلك تفاديًا بأن يكون تحت عباءة الوفد المصري، الذي يقوده الرئيس جمال عبد الناصر. وتقودنا هذه الأكذوبة إلى طرح عدد من الأسئلة المشروعة: مَنْ أعضاء الوفد السوداني الذين ذهبوا إلى مؤتمر باندونغ؟ وهل رواية المنديل صحيحة أم مختلقة؟ وكيف تعامل الوفد المصري مع الوفد السوداني، الذي صرَّح رئيسه الأزهري على الملأ بالدعوة إلى استقلال السودان التام، بعيدًا عن شعار “وحدة وادي النيل”، الذي كان أحد الأحلام الاستراتيجية لقيادة الثورة المصرية؟
(2)
وفد السودان إلى باندونغ
يقول خليفة عباس العبيد، وكيل وكالة السودان الخاصة بالشؤون الخارجية وعضو وفد السودان إلى باندونغ، إن حكومة السودان الانتقالية (1954-1956) تلقَّت دعوة لحضور مؤتمر باندونغ من الدول المنظمة للمؤتمر. وبعدها سافر الوفد السُّوداني إلى إندونيسيا، برئاسة إسماعيل الأزهري (رئيس الوزراء)، وعضوية مبارك زروق (وزير المواصلات)، وحسن عوض الله (نائب برلماني)، وخليفة عباس العبيد (وكيل وكالة الشؤون الخاصة بالإنابة وسكرتير الوفد)، ورافق الوفد الصحافي أحمد يوسف هاشم، والصحافي علي حامد، ومحمد ميرغني (ضابط أمن رئيس الوزراء)، وأحمد حسين الرفاعي (سكرتير خاص رئيس الوزراء)، وكمال محمد إبراهيم (مصور بمصلحة الإعلام). وعند وصول الوفد إلى إندونيسيا يقول خليفة عباس العبيد: “كنا وقتها لم نصبح دولة مستقلة لنحمل عَلَمْنا، فقد أثلج صدورنا وملأنا زهوًا واعتزازًا وفخرًا أن نشهد ولأول مرة رايةً تُرفع عاليةً على السارية بين أعلام دول المؤتمر التسع والعشرين، راية بيضاء نقية من غير سوء، وقد خُطَّ عليها بحروفٍ كبيرةٍ زاهيةٍ اسم السُّودان، يتوسطها بلونٍ أحمرٍ قانٍ، ترفرف فوق رؤوس الجميع … ولقد شرقت بدمعة الفرح، أو كدت، عندما جاءنا رتل السيارات الفارهة، الذى خصص لوفدنا على مقدمة كل منها علم كتب عليه اسم السُّودان… وعندما رأينا في مطار باندونق، وفي الفندق المخصص لنا، وفوق بناية المؤتمر وعلى طول الطريق، العلم الذى تخيرته وابتكرته لنا سكرتارية المؤتمر يرفرف تياها من بين أعلام الدول… فقد كانت حروف اسمه المجردة الحمراء تتوهج فوق بياضه الناصع القشيب، تشع متألقة كأنها قد خطت أو حيكت من نور.”
تؤكد هذه الراوية أنَّ العلم السوداني ذي اللون الأبيض الذي كُتب عليه اسم السودان بلونٍ أحمرٍ قانٍ، الذي وضع إلى جنبات الطرقات المؤدية إلى باندونغ وفي المبنى الذي خصص مقررًا للمؤتمر كان من ابتكار وصُنع الجهات المنظمة للمؤتمر، ليس عبارة عن منديل وضعه الأزهري على سنة قلمه وكتب عليه اسم السودان. كما أن الدعوة الخاصة من اللجنة المنظمة للمؤتمر ووضع العلم السوداني المقترح على سارية المقر يؤكدان بأن الوفد السوداني قد ذهب إلى المؤتمر ممثلًا لنفسه، بالرغم من أن السودان لم يحصل على استقلاله التام آنذاك، بل كان وضعه أشبه بدولة ساحل الذهب (غانا لاحقًا) التي حضرت فعليات المؤتمر. ومن زاوية أخرى تؤكد هذه الحيثيات أن الوفد المصري لم يكن يتصور أن يكون الوفد السوداني جزءًا منه، لكن ربما كان يتوقع أن يشير الزعيم الأزهري في خطابه أمام المؤتمر إلى أمكانية وحدة السودان مع مصر وفق أي نموذج يتفق عليه الطرفان لاحقًا.
كن الأمر اتضح بعد خطاب الأزهري الذي قال فيه: “إذا كنا نتمتع اليوم بأكمل الحرية في تسيير شئوننا الداخلية الخاصة، فإنَّ هذا المؤتمر يمهِّد لنا أرضًا جديدة، ويسجِّل الدلالة الأولى على ممارستنا لسيادتنا الخارجية واستقلالنا”، ولذلك وصف العبيد مؤتمر باندونغ بأنه كان “نقطة تحول كبرى في تحديد مسار” السُّودان والإعلان عن توجهه السياسي. وتجلَّت نقطة التحوُّل الكبرى في أنَّ الأزهري، زعيم الحزب الوطني الاتحادي الحاكم آنذاك، قد بدأ يفكر بصورة واضحة وجادة في استقلال السُّودان التام، بعيدًا شعارات الوحدة أو الاتحاد مع مصر. إلا أنَّ هذا التحول قد أثار حفيظة الوفد المصري، الذي أحاط الوفد السُّوداني “بعطفه وبرعايته وبلطفه وبمحبته؛ لدرجة استرعت الأنظار، وبلغت حد التدليل… وكان يتولى [تقديم الوفد السوداني] إلى سائر الوفود، بكثير من الود والتجلة والإطراء والإعجاب، وبفائق الاهتمام والاحترام، وظل ذلك شأنه حتى اليوم الذي حُدد لإلقاء الرئيس الأزهري خطابه أمام المؤتمر.” وبعد ذلك تحولت مشاعر الود والإطراء إلى مشاعر نفور وإعراض. كان تأثيرها سالبًا على أعضاء الوفد السُّوداني، الذين حزَّ في نفوسهم “ذلك التغيير والتبدل المفاجئ”، الذي جعلهم “في عداد المغضوب عليهم،” من نظرائهم المصريين. ومن زاوية أخرى، انعكست مبادئ مؤتمر باندونغ في مرتكزات السياسة الخارجية لحكومات السُّودان الوطنية في سنواتها الأولى، والتي لخصها محمد أحمد محجوب في المؤتمر الصحفي الذي عقده بنيويورك عام 1956، عندما رفع علم السُّودان على مبنى هيئة الأمم المتحدة، وأعلن التزام السُّودان بمبادئ الأمم المتحدة وأهدافها، ومبادئ مؤتمر باندونغ، المتمثلة في الحياد الإيجابي تجاه النزاع بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، ومساندة حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا.
(3)
خطاب الوفد السودان أمام المؤتمر
يقول خليفة عباس العبيد: “أعددنا خطاب السودان في الطائرة … ما زلت أذكر مقدار ما كان يساورني شخصيًا من قلق ومن خوف، (خصوصًا لأني وبالإضافة إلى عضويتي في ذلك الوفد كان مناطة بي مهام السكرتارية له) على أن خطابنا الذي كان يتوجب علينا أن نقدمه يوم وصولنا إلى السكرتارية العامة في باندونق لم يكن قد أعد، أو حددت خطوطه حتى صباح مبارحتنا الخرطوم. وأذكر أنني ظللت استحث الأخ مبارك زروق طول الرحلة لإعداده. وأذكر أنه لم يستجب إلا بعد أن اقلعت بنا الطائرة التي امتطيناها لنواصل بها سفرنا من مطار عدن … حينما شرعنا معًا … في إعداد ذلك الخطاب الذي كنت احسب أنه سيكون مجرد مسودة نناقشها ونقرها كوفد … ولكن جرى قلم مبارك يسبق أفكاري فيسيل بسلاسة ونصاعة وقوة واندفاع وابداع ودون توقف لجريانه ولا انقطاع … كأنما كان يملى عليه فيكتب!!! وكنت اتابعه لأقراء ما يخطه، وأنا منبهر … ولم اشاء أن اقطع عليه تيار أفكاره، أو أن اشوش عليه، فعمدت إلى ما فرغ منه من ورقته الأولى متناولًا لها، وبدأت في ترجمتها إلى الإنجليزية، وهكذا ظل حالنا حتى إذا ما فرغنا وبزغ الفجر كانت النسختان العربية والإنجليزية جاهزتين … وهب إلينا الرئيس الأزهري، الذي ظل صاحيًا في مقعده، وجلس إلى جانبنا فرأى وقرأ، وبارك ما انجزناه.”
بالرغم من أعجاب السفير خليفة عباس العبيد بقدرات الوزير مبارك زروق الفكرية وملكته في الكتابة؛ إلا أن الخطاب الذي قدمه الرئيس إسماعيل الأزهري أمام المؤتمر كان خطابًا متواضعًا، ويفتقر إلى العمل الجماعي والرؤية المستقبلية، مقارنة بخطاب الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أعده فريق من الخبراء الاستراتيجيين المصريين. وهذه واحدة من آفة العقل السياسي السوداني، الذي يعتمد دائمًا على الارتجال في المسائل الاستراتيجية التي تهم مصالح البلاد العليا. ومن أمثلة ذلك حديث الفريق أول ياسر العطا، في حواره مع الإعلامية لينا يعقوب، بأن حكومة السودان ستعطي روسيا “نقطة تزود في البحر الأحمر، قصاد إمدادٍ عاجلٍ من الأسلحة والذخائر”، دون يخضع الموضوع لدراسة مستفيضة في إطار أهمية البحر الأحمر الجوسياسية في الإقليم.
(4)
الدروس والعبر
الدرس الذي يمكن أن يستقيه القارئ من هذا القصة، أولًا: عليه أن يتحرى الدقة في الأخبار التي ينقلها إلى الفضاء العام، تحسبًا بأن الخبر الكاذب يؤدي إلى إفساد الرأي العام، وإفساد الرأي العام يفضي إلى صعوبة الحلول أو الأطروحات المقترحة لإصلاح المجتمع. ويترتب على كل خبر كاذبٍ استنتاج خاطئ، يكون ضرره أكثر من نفعه. وهنا يصدق قول الشريف الرضي “وما آفة الأخبار إلا رواتها”. ثانيًا، يجب أن تخضع القرارات الاستراتيجية المتعلقة مصالح السودان العليا إلى دراسات جادة من العلماء السودانيين وشركاء المصلحة دون أن تكون خبط عشواء، وتُعرِّض البلاد إلى أخطار مستقبلية.
(5)
لمزيد من التفصيل، ينظر:
خليفة عباس العبيد، أشتات الذكريات لفترة جاوزت الثمانين عامًا عبر دروب الحياة، أم درمان: مركز محمد عمر بشير، 2003.
ahmedabushouk62@hotmail.com