استـمرار انتهاكات قوات الدعم السـريع في مناطق الجزيرة وكردفان ودارفور، تشير إلى حقيقة ناصعة أنها ليس مجرد تفلتات معزولة؛ وإنما انتهاكات مدبرة تستهدف المدنيين، الشوك الكثيف الذي يغطى ظهر وبطن الدعم السـريع تقريباً؛ يحول بينه وبين أحضان السودانيين، فمهما اتسعت رقعة انتصاراته أو تعاظم حجم تضحياته أو قناعاته بصدقية توجهاته، فالغاية لا تبـرر الوسيلة على الإطلاق، وليس هناك ما يبرر الوحشية والقسوة في القتل والتشريد والنهب والسلب، والاعتذار وحده لا يكفي؛ وإنما كف الأذى بخطوات ملموسة تضمن عدم تكرار الجرائم، وتؤكد الرغبة الصادقة في تحقيق السلام وإنهاء الحرب.
فشـل عمليات التحشـيد والتجييـش ومظاهر المقاومة الشعبية ومحاولات الزج بالمواطنين في الاقتتال وغيرها من حيـل الفلول وأعوانهم لاستمرار الحرب وتوسيع نطاقها وعرقلة التفاوض، بدعاوى نصرة الجيش في حرب الكرامة، فليس هناك متسع لمزيد من الحيل التي لم ولن تنطلئ على الشعب السوداني، فقد انكشف غطاء حقيقة الفلول بتدمير البلاد مقابل العودة من جديد للحكم على ظهر الدبابات وأفواه البنادق، وعلى الجيش بعد إدراكه لهذه الحقيقة اتخاذ قراراً شجاعاً بالعودة لطاولة التفاوض لإنهاء معاناة السودانيين ولا عزاء للفلول وأعوانهم.
المدهش في مثل هذه الأوضاع الخطيرة التي يتفاقم خطرها يوماً بعد يوم؛ ورغم تعاظم التهديدات المحدقة بالبلاد من انهيار اقتصادي، ومجاعة، وانتهاكات فظيعة، واستمرار قصف المنازل، وتشريد المواطنين، ونذر التقسيم، وضياع الدولة، ولا حل عسكري منظور؛ أن تتراجع الأصوات المطالبة بالسلام داخل الجيش، السلام لا يعني استسلام مخزٍ بأي حال من الأحوال كما يروج البعض؛ بل العكس تماماً هو انتصار مؤزر وتعبير عن إدارة شعب سئـم الحرب وكل همه ومبتغاه الأمن والاستقرار والعيش الكريم، عطفاً على حقيقة أن الجيش لم يحقق أهدافه في الحرب، ومن المؤكد تحقيقها عبر اتفاق سلام، فلماذا الإصرار على الطرق المغلقة؟، وفي ذلك تمثل دعوة الاتحاد الإفريقي للقاء مباشر بين قائد الجيش وقائد الدعم السـريع فرصة لإنهاء الحرب واستعادة التفاوض في منبر جـدة.
أدرك المجتمع الإقليمي والدولي مؤخراً حجم المأساة والمعاناة التي يعيشها الشعب السوداني؛ كأخطر وأكبر كارثة إنسانية في العالم، ولكن؛ هذه الحقيقة وهذا الإدراك المتأخر يطلب تدخلات عاجلة في ثلاثة محاور هي؛ المساعدات الإنسانية بالوفاء بالتعهدات والالتزام بتوفير الإغاثة فوراً، وحماية المدنيين وفرض عقوبات مباشرة لوقف الانتهاكات، والحل السياسي بتوحيد المنبر التفاوضي وتوفير ضمانات تنفيذ ما يتفق عليه.
أدركت القوى المدنية بكل أطيافها من درس الحرب القاسي؛ حقيقة غياب الحوار المدني والتوافق السياسي على قواعد اللعبة السياسية، وأدركت كذلك حقيقة أن عهود الاستعانة بالعسكر لفرض أجندة سياسية قد انتهى، وحقيقة أن الاصـطفاف مع أو ضـد أي من طرفي الحـرب ليس هروب من المسئولية فقط كما يظن البعض وإنما تقاسم المسئولية عن الجرائم التي ارتكبت، بالتأكيد هذا الإدراك غير كافي ولا قيمة له؛ إلا بالانخراط في حوار مائدة مستديرة لا يستثني إلا من يصر على تحقيق مصالحه عن طريق الحرب، وفي ذلك تمثل المبادرة المصرية خطوة أولى وبارقة آمل للحوار الممرحل؛ شريطة تدارك سلبيات التجارب السابقة، واصطحاب التغيرات التي أحدثتها الحرب، والنظر باستراتيجية لمستقبل السودان والمنطقة. هذه الحقائق الخمس؛ إذ اُحسن التعامل معها، حتماً ستشكل واقعاً جديداً، وقد تؤدي إلى انقشاع الأزمة التي تطاولت وتعاظمت تداعياتها وقد تكون مآلاتها وبالاً على السودان، والمنطقة بأسرها ستكون في مهب الريح.