هكذا يعرف بعض الاقتصاديين الاستثمار في التعدين العشوائي للذهب الذي مضاره أكثر من مكاسبه. الاستثمار الذي يدمر حياة الكل من أجل رفاهية البعض (شريحة صغيرة من المنتفعين)..
يتساءل البعض عن ماهية الحلول الممكن طرحها فيما يختص بملف التعدين الذي ينشط فيه ما لا يقل عن ثلاثة ملايين معدن في مختلف أنحاء السودان
لكن السؤال الصحيح الذي يجب أن يطرح من وجهة نظري في خضم هذه الفوضى الاستثمارية التي تضرب المنطقة هو:
هل استخراج الذهب بالطريقة التي نعرفها اليوم مهم للاقتصاد المحلي والسوداني؟ أم للشركات والأفراد التي لها نصيب الأسد من الذهب المستخرج بمناى عن أي دخل أو رفد مؤثر لخزينة الدولة بأي إيرادات من هذا المورد؟ أم للعمال المساكين الذين يحصلون بالكاد على بضع جرامات من الذهب يشترون بها أمراض مهلكة لهم؟.
من المفارقة أن السودان يعد ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، كما يحتلّ المركز الـ12 في الترتيب العالمي لإنتاج الذهب (حسب إحصاءات هيئة المسح الجيولجي الأمريكي). لكن نسبة ضئيلة جداّ من الذهب المستخرج يدخل في خزينة الدولة.
ووفقاّ ل «رويترز» فإن نسبة تهريب الذهب المنتج تصل إلى 80 في المئة.
يعني ذلك أنه مع كل هذا الزخم والضجيج، لا يتوفر للسودان احتياطي من الذهب يحقق له التوازن في ميزانه التجاري، أو في الموازنة العامة. لو كان لهذا المنتج تأثير على الاقتصاد الكلي للدولة، لجاز لنا الكلام عن ملف التعدين كقطاع استراتيجي مهم..
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن المجتمعات المحلية تدفع أثمانا غالية لنشاط تعديني لا يخدم الاقتصاد الوطني.
يشير تقرير صدر في يناير من العام الجاري عن مجموعة من الباحثين السودانيين أن حوالي 450 ألف طن من مخلفات تعدين الذهب (الكرتة) المليئة بالزئبق تنتشر بولاية نهر النيل. ويرجح أن الولايات الشمالية تحظى بما لا يقل عن هذه الكمية من النفايات القاتلة على أقل تقدير.
تظهر عينات من الدم والبول ومياه الشرب والتربة، في أرجاء عدة مستويات مرتفعة من آثار الزئبق وفق التقرير.
المنطقة الممتدة من كدرمة التاريخية، وحتى حلفا تعج بعدد هائل من المعدنين يقدر عددهم بما يزيد عن 30 ألف معدن وربما أكثر (لا يتوفر لدى الكاتب إحصائية دقيقة).
يستنزف هؤلاء ومعهم شركات ضخمة واحدا من أهم قطاعات الاقتصاد، التي كان بالإمكان الرهان عليه لإحداث تحول رئيس في مستوى معيشة السودانيين.
هؤلاء المعدنين الذين يتواجدون بعائلاتهم من مناطق مختلفة من السودان يعيدون في غفلة من المجتمع المحلي صياغة التركيبة السكانية وثقافة المنطقة التي صمدت محافظة على هويتها لالاف السنين التي خلت.
وهكذا يمكن الإشارة إلى جملة من الانعكاسات السالبة والتكلفة الباهظة لهذا النشاط العشوائي على النوبيين. منها التركيبة السكانية والمخاطر الأمنية وتدمير البيئة، يضاف إلى ذلك تدمير التاريخ.
يستمر عبث المعدنين بهذه الثروة القومية، لا يهمهم مقدار الخراب الذي يحدث، أو البيئة التي تتضرر من خلال الزئبق والسينايد.
لكن ليس الذهب وحده هو الذي يستخرج ويتم سرقته أو تهريبه من المنطقة إلى خارج السودان ، بل يشمل ذلك أيضا كمية من الآثار التاريخية. وفيما يبدو أن المنطقة النوبية غنية جدا بالآثار، لكن ضررا بالغا أصاب المنطقة أيضا على صعيد هذا الإرث الحضاري والتاريخي.
وهكذا يمكن أن نخلص مما سبق بالاتي:-
- ليس للتعدين العشوائي للذهب أي تأثير إيجابي على المستوى الكلي للاقتصاد فلا هو يدعم نمو الاقتصاد من خلال زيادة الاستثمارات ولا هو ينعكس على ميزان التجارة الخارجية ليحد من عجزه.
- كما لا يوفر النشاط إيرادات لتمويل مشروعات في قطاعات الاقتصاد الأخرى ولا يوفر بالتالي فرص عمل جديدة سوى للأفراد العاملين في ظروف مخاطرة كبرى تتهدد حياتهم.
ما العمل؟؟ - الاقتناع وتوعية المجتمع النوبي أن قضية التعدين مسألة وجودية لهم وذلك بسبب النمو المتزايد للسكان الجدد من خلال الاستقرار ومن خلال شراء الأراضي والأصول عبر القوة الشرائية المتوفرة لديهم.
- تأسيس صندوق تدعمه المحليات من خلال الأموال المتوفرة لديها إلى جانب مساهمات المقتدرين وأبناء المنطقة العاملين في الخارج.
- استغلال العلاقات القائمة مع المنظمات الدولية واختيار جهات متخصصة لإجراء مسوح وأبحاث تبين أثر التعدين على بيئة وصحة الإنسان، وكذلك دراسة مدى تأثير التركيبة السكانية.
- يمول الصندوق تلك الأنشطة والأنشطة الإعلامية والتوعوية المصاحبة لذلك.
– تأسيس مركز للعصف الذهني لاستصحاب أفكار وإبداعات النوبيين لإحتواء تداعبات المشكلة.
وأخيرا كل الأمل أن يضع كل نوبي وكل كيان هذه القضية كاولوية في أجندة أعماله..لأننا أمام تحدي أن نكون أو لا نكون.. فهذا النشاط القبيح هو الحرب الخفية الصامتة والناعمة التي يخطط من خلالها ابتلاع أغلى وأغنى مناطق السودان اقتصاديا وتاريخيا
والله من وراء القصد