في يوم الجمعة الحادي عشر من أغسطس العام الماضي 2023؛ منحت وزارة الثّقافة الفرنسية الكاتب السوداني الرّوائي عبد العزيز بركة ساكن، وسام جوقة الشرف برتبة فارس في الفنون والآداب، Grade de chevalier dans l’ordre des Arts et Lettres- .
أُسّس هذا الوسام في الثاني من مايو / آيار للعام 1952 ويُمنح ” تعبيراً عن الإحترام والتّقدير لكلّ من الفنّانين والكُتّاب”.يتكون هذا الوسام الفخري من ثلاث درجات، تُمنح بموجب مرسوم صادر من وزير الثّقافة والإتصال بعد إشعار المُحافظ والمجلس المسؤول عن وسام الفنون والآداب، حيث أن التّرقيات تجري ما بين يناير ويوليو من كل عام بالنسبة للمواطنين من فرنسا، ثم يُخصّص شهر للأجانب وتشمل الرّتب: رتبة فارس، رتبة ضابط، رتبة قائد.
ومن أشهر الروائيين والكتاب الذين تحصّلو على الوسام يأتي الروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي؛ والروائي ماريو فارغاس يوسا، والأمريكي بول استر، والمصري علاء الإسواني ، واليمني علي المقري والإسبانية كارمن مورا وهي غير مقرؤة في العالم الذي يقرأ بالعربية.
يُعتبر هذا الوسام تقديراً وإعترافاً ومعادِلاً موضوعياً لمقولة إنجيل يوحّنا “لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ”. في علاقته الخرِبة مع السّلطة مُنعت أعماله وشّرد من الوطن ؛ فالعلاقة بين السّلطة والمُثقّف ظلّت على الدوام علاقة يسودها الجدل والمنع والأذى النّفسي والجسدي والنّفي.
إن أدوات الفعل الثّقافي لا ترتبط بالمُمارسة السّياسية وحدها، فالمُثقف قادر على التّغيير والتّأثير و توجيه الرأي العام وإحراج الحكام ونقد السّلوك السياسي والدفاع باستماتة عن الحريات والحقوق من مواقع مختلفة، وليس شرطا أن يفعل ذلك من خلال يافطة أو هيئة حزبية معينة؛ أي إن المثقف يستطيع التأثير في الممارسة السياسية دون أن يكون سياسيًا بالمعنى المؤسساتي الذي يقتضي الإنضباط لإيديولوجية وخطاب الهيئة التي ينتمي إليها. هكذا استخدم الروائي بركة ساكن حقّه في مُضايقة السّلطة؛ وهو حق يجب أن يمارسه كل مثقّفٍ. وعلى معشر القرّاء أن يحاكموا الأدب بأدواته لا بأدوات السّياسة.
في مقطعٍ لرواية الطّواحين يقول الروائي بركة ساكن على لسان إحدى شخصياته: قلت له: هنالك سؤال يحيّرني الآن:
من الذي يقود الشارع؟
قال مبتسمًا:
“الشارع يقود نفسه. فالجوع والظلم والمرض والتّساقط والفساد السياسي، والمحسوبية … إلى آخره، هي المولّد الحقيقي لهذه الثّورة الشّعبية، أما القيادات العمالية والنقابية والسّياسية فهي كما تعلمين إما مشردة، إما خارج الوطن، إما مدفونة تحت ترابه، أو مُقيدة في السجون ومنهم من باع، ومنهم من خاف فصمت”. ربّما يتساءل المرءُ عن هذه القدرة الإستشرافية لقراءة المستقبل والتّنبوء به.
ولكن تجاوبنا أعماله الروائية على سؤال المستقبل؛ حيثُ هنا مجموعة من التّصورات والأسس النّظرية التي تتأصّل في حياتنا وتجاربنا. إنّها ليست مجرد أعمال أدبية نتذوّقها بل؛ هي ثورة حقيقية في العمل الروائي المكتوب بالعربية، حيث تنبُع هذه النّظرة من مُعطيات مثل القوة، وسلطة إنشاء والنّصوص,والتّمثيلات ورؤية الآخر وتنميطه، وقوة النّصوص المولدة لذاتها، وترابط المعرفة بالقوة، لكن ثمّة مفاهيم طارئة تقفز لتحتل المكانة المركزية في التّحليل، وفي تكوين المنظور الذي يُعاين منه الثّقافة والتّاريخ والأدب بالنسبة للمُجتمع، وأهمها على الإطلاق؛ قدرة كتابات الروائي (بركة ساكن)، على التّلاحم بين التّاريخ والسّرديات، والتّكوين الإستيهامي الخالص للمُجتمع المُتخيّل، وتشابك هذه المخيلة بالتّاريخ، والواقع بالسّحر ، بل إنتفاء إمكانية تحديد الواقع خارج إطار التّخيل.
الخُطاطة السّرديّة في السّياق الجديد، هي تشكيل عالم مُتماسك متخيّل تُحاك ضمنه صور الذّات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء وتحيّزات وإفتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه. وتتدخل أعماله الروائية أو السّرديّة بمعنى أدقّ في مكونات الدّين والّلغة والأساطير والخبرة الشعبية.
في إحدى حوارته الصّحفية أوْضح الروائي بركة ساكن خارطة طريق مشروعه الأدبي: ” إنّني انحاز لمشروعي الإنساني وأكتب لطبقتي، أحلامها والآمها ،للفقراء والمتسولين والدّاعرين والمثليين وصانعات الخمور البلدية وأولاد الحرام، الجنقو العمال الموسميين الطلبة المشاكسين، للأنبياء الكذبة، لفاعلي الخير من أبناء وبنات وطني، للحرية”.