يقود الكلام حول منهجية وفلسفة ما بعد الحكاية/ وما وراءها، إلى مأزق النص الروائي السوداني الذي رغم انفجاره الكبير إلا أنه يقع في فخ الحكائية، والتأويل والتفسير السياسي والاجتماعي المباشر، وأهمية هذا القول في أن مرتبط بصميم عمليات الثقافة الفاعلة التي بإمكانها تحريك الواقع باتجاه مساءلة الأزمات وبالتالي إيجاد الحلول لها، فالرواية تظل من أرقى الأشكال الإبداعية التي يمكن لها أن تنتصر لقيم الحق والخير والجمال، لكن هذا يتوقف على أنها تمثل شكلاً روائياً حقيقياً وليس مجرد إملاء وانعكاس مرايا للأزمة، لا يقود لاستشراق ولا يخلق فضاء معرفي جديد كما نرى في روايات الأمريكي بول أوستر أو الإيطالي أمبرتكو إيكو وكونديرا وغيرهم.
ينتبه الناقد عزالدين ميرغني إلى أن الرواية في السودان عانت من تهميش بل أنها حوربت بالسخرية في بداياتها، في فترة هيمن فيها الشعر في النصف الثاني من القرن العشرين وأن خروج الطيب صالح وسط هذا الحصار الشعري كان “معجزة” في حد ذاتها، ويتكلم في مقال نقدي نشر بصحيفة ألوان بتاريخ 10 نوفمبر 2015 عن كيف أن الرواية السودانية لم تستجب لإغراءات السلطة أو تتماهى معها بأن تصبح بوقاً لها، وفي زاوية أخرى يلفت الانتباه إلى مقولة فيصل دراج أن الرواية لم تتحول إلى ظاهرة مجتمعية حتى الآن على صعيد القراءة أو الكتابة. وكلام عز الدين سليم من ناحية أن الطيب صالح شهداً خرقاً للمألوف، بغض النظر عن كيف حدث ذلك والمشهدية التي وفرت أرضية ذلك الحدوث، لكن قد لا يكون دقيقاً في فكرة التماهي مع السلطة، فقد أوضحنا في فصول سابقة أن الخطاب المعارض أو الإبداعي اندغم مرات دون أن يدري في سياق التسلط والسلطة، ضمن نسيج من الأدوات المعقدة التي تتشابك بحيث يصعب أحياناً لغير المتخصص أو الحصيف أن يرى ذلك.
نجح الطيب صالح في “إبداع مجال جديد للقول” بحسب ميرغني “عن القول الشعري وخطابه الذاتي والغنائي المنغلق”، وهو سياق وليد في الحياة السودانية أو في المشهد الثقافي، فقد تكون ثمة روايات كتبت قبل ذلك ولم تنشر مثل رواية “الفراغ العريض” لملكة الدار والتي يرجع تاريخ كتابتها إلى 1948 في حين أنها نشرت لأول مرة سنة 1970، وبالطبع كانت هناك أعمال كالتي كتبها أبوبكر خالد والمحاولات المبكرة لصلاح أحمد إبراهيم وعلي المك وغيرهم والتي لم تجد الانتشار المناسب أو القدرة على التماهي مع الذائقة بدرجة واضحة كما وجد الطيب.
في واقع الأمر فإن الشعر كان ظاهراً وقوياً في سياقات الثقافة السودانية في القرن الماضي (العشرون)، وكان أغلب المبدعين يبدون تجاربهم بالبحث عن القصيدة، بحيث يمثل ذلك المدخل إلى عالم اكتشاف الذات وفهم العالم من حول الإنسان، من خلال تلك الاستفهامات التي يطرحها الكائن على نفسه، وهذا له ارتباط بقضايا كثيرة عالجها عبد الهادي الصديق في كتابه الهام “اصول الشعر السوداني”، من حيث بحثه عن الجذور أو القيم التي انطلقت منها المشهدية الشعرية في السودان، وكان ذلك سؤالاً يتطلب الإجابة وقضية ملحة وقتها، ومستمرة لم تفسر بالشكل القطعي.
اليوم نحن أمام ظاهرة السرد وانتشاره الواسع في السودان وقد تكون العولمة والحياة الجديدة وسهولة الاتصال والفضاءات الجديدة للتواصل فتحت للرواية أن تصل إلى الكثيرين، غير أن سؤال الرواية في حد ذاته وجذورها في الحياة الثقافية السودانية وكيف استطاعت ان تقفز مما كان اشبه بالتهميش إلى الواجهة، هو أمر يتطلب التفكير فيه بعمق، وهو استفهام يتعلق بالعلاقة بين الكائن الاجتماعي واللغة، وتنازع ذات المبدع بين الذاتية والغيرية، وكيف باتت مجالات الحياة أكثر تعقيداً، بحيث أن الرواية تصبح قادرة على الاحتواء، أو أن الرواية هي فن التفكير الجديد الذي يقترب من الذات بشكل يحررها من الأنا التي يفرضها الصوت الشعري. وللأسف فإن ذلك لم يحصل بالشكل المطلوب، لأن غواية الشعر لم تنته بعد. هذا يقود إلى الشعرية في السودان وعلاقتها بأنسقة المجتمع وطبقات المعرفة فيه، وكيف للذائقة أن تنأى عن الإيقاعية إلى السرد والتصوير والحكايات الجديدة، فالحكاية بوصفها التقليدي دائما وأبدا ظلت تعبيراً معاشاً ويومياً يعبر عن ألم الإنسان وقسوة الحياة ورغبات الانفلات من الواقع المرير، لكن قولبة الحكاية في مجازات عصرية وأنسنتها بل تحويلها إلى طاقة لغوية، فهذا فعل حديث في المشهد الثقافي، وهو أمر لم تتم مساءلته وتتبع كيفية تشكله إلى اليوم بطريقة مرتبة، وهذه تبعة لتأخر المشهد النقدي في السودان الذي لم يتحول إلى المنهجية والقدرة على سبر تأريخ المركبات الفكرية والثقافية بحيث يقوم على تحليلها وقراءتها وفق المناظيم التي شكلتها وكونتها بالصور التي هي عليها الآن. ولعل غياب مثل هذه القراءات أو هذه الكتابة التي بقدر ما توثق تبتكر الأسئلة وتعيد إنتاج العلاقة مع المنتجات الثقافية، يظل أحد الشروخ الفكرية في الوقت الراهن وقبله، وهذا بالطبع يعوق مسيرة الإبداع الجديد من حيث المراجعات التي تساهم بشكل ملموس في ترتيب أوراق البيت الثقافي وأشكال العلاقات بين فنونه المختلفة وكيف يمكن لفن أن يبقى أو يزيح آخر، وكلية هذه الوقائع في صورها الذهنية الآنية والمستقبلية… بحيث يكون لنا نسقاً ثقافياً له القدرة على ابتداع المستقبل لا انتظاره بل التكهن بالمآلات الثقافية المفترضة.
لكن إذا كان النظر إلى الأمور وفق مناظير الجمع بين أنساق الحياة وضروبها في السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية وغيرها، فإن سؤال الرواية لا ينفك متعلقاً بهذه الصورة المعقدة من حيث تشابك السرديات وضرورة فك الاشتباك مع ظاهرة الحكائية والنمط السردي التمثيلي للحياة. فالسردية السياسية مثلاً وبغض النظر عن ترهلاتها تحاول أن تفرض سلطتها على الفكر وعلى الأدب بأدوات الرقابة والحظر والتابوهات الاجتماعية وغيرها، لكنها واقعياً هي لا تحتاج إلى كل ذلك، فالرقيب قائم لدى الكاتب نفسه، بل يعميه، كما أنه لا يزال يتماهى مع التسلط كما أشرنا.
وإذا كانت السياسة في السودان هي ظاهرة مجتمعية من حيث التفكير والنقد والمساءلات، لم ترتق للفكر المنهجي العارف، إذ أنها تمارس كفعل يومي دون إخضاع ملموس للمراجعة المعرفية بمعناها العلمي والمرتب، وليس بمجرد التعلق بالكتابات ذات الارتباط بالفعل السياسي اليومي كما في الصحف أو مواقع الانترنت والتي تحمل طابع الصدى، فإنها أي السياسة – بذلك الشكل – تقع أسيرة الدوران في الفراغ لأنها لم تجد الناظم الذي يحركها لتكون فعلا مستقبلياً بتحريرها وابتكارها ذهنياً لتصبح ممارسة علمية واختصاصية. في المقابل فإن الأدب والفنون والرواية حتى لو أنها لم تخضع للمراجعات الكبرى أيضا، إلا أنها بخلاف السرديات السياسية تصبح مدونات مدعاة للتاريخ والواقع – وهذا ليس وظيفتها المفترضة – لأن المدونة السياسية تنهمك في شتات التداعيات وتسارع الأحداث بحيث لا يمكن القبض على مفاصل بعينها منها، أي جسم متماسك وواضح يرسم الخطوط الفكرية العريضة، إلا بابتكارات فيمابعدية تصبح هي الأخرى متخيلات إبداعية تتحيز باسم التاريخ. وفي كلا الصورتين السياسة والأدبية، فإن السردية تصبح منحازة، لا واعية، واهمة باسم السيطرة على التاريخ والمتخيل.
من إطار براني فإن ما تفعله الرواية أنها حتى لو نقلت الواقع أو تمثلته وحتى لو فقدت الجمالية المتوقعة فنياً، فإنها تصبح شاهداً على زمن بعينه، وتكون جزءاً من متخيلات التاريخ العميق، باعتبار أن السرد هو نسق تفكير ومحاكاة ومعايشة وتقليب للظروف والمآلات في الذهن وعبر النص المسطور، وهو الوعي الذي يريد أن ينفلت من اللحظة بحيث يقترب من إدراك المعنى إن وجد. غير أن هذا المعنى الإيجابي شكلياً يظل قديماً وبالياً، وهو – للأسف – المسيطر في الوعي الجمالي السردي السوداني. في المقابل فإن السياسي أوضح في كونه لا يبحث عن المعنى بقدر بحثه عن المنفعة، وفي الفعل السياسي تنأى الجماليات، إلا إذا كنا قد وصلنا إلى طور متقدم من القراءات التي تمكننا من إبداع ذلك النوع من الأفعال المتقدمة التي تتعايش مع صورة الإنسان والمجتمع الذي ينشد اللذة في فعل الحياة على الأقل دعك عن المتعة، والاستعارة الأخيرة عن عز الدين ميرغني الذي قال: “مشكلة الكثير من النصوص الروائية السودانية انها نصوص لذة وليست متعة”، ولعل البحث عن المتعة هو منال بعيد. فعلى الأقل سنفكر في اللذة بوصفها عجالة وأمر مؤقت. غير أن هذا الرهان في جوهرة يتطلب تلك المراجعات التي لن تتوقف عند تاريخيات الرواية أو الفنون الأدبية، أو مراجعات الفعل السياسي ورؤيته بشكل نسقي في مدونات حديثة، بل إلى مراجعات شاملة في كليات الحياة والتقاليد والمجتمع في علاقته بالممارسات اليومية ونظرته لموقعه في كافة الأبعاد المحتملة، هذه المسائل التي لن تصبح ترفاً إذا بدأنا فيها ورأينا المحصلات.