الجن بيتداوى كعبة الأندراوه
(وما عليَّ إذا لم تفهم البقر)

الجن بيتداوى كعبة الأندراوه<br>(وما عليَّ إذا لم تفهم البقر)
  • 06 أغسطس 2024
  • لا توجد تعليقات

محمد م. راجي


رحم الله أبي الطيب المتنبي، فهو القائل:
لكلِّ داءٍ دواءٌ يُسْتَطَّبُّ به
إلَّا الحماقةَ أعيتْ مَن يُداويها
والحماقة، التي “أعيتْ مَن يُداويها” هي درجة عالية من الجهالةٌ، والبلاهة، والغباوة، والسماجة، والتفاهة، والسفاهة، تُفقد صاحبها القدرة على على السيطرة على العقل، والتمييز بين الخطأ والصواب، والحسن والقبيح، والخير والشر، والحق والباطل، والضار والنافع، والخلط بين الحقيقة والوهم، والتشبث الأعمى والأصم بالفكرة المُختلقة المُتوهمة رغم خطلها وثبوت خطئها بالشواهد والقرائن والبراهين والأدلة العقلية والظرفية والميدانية.
و”الحماقة” حالةٌ معروفةٌ ومُعرفةٌ من علماء النفس وأطبائه ويُسمونها (Amentia)، أو (الهبل). وهي أعلى درجات الإعاقة الذهنية، ولها تأثير كبير على التفكير والإدراك والوعي والتمييز والعواطف والحس الأخلاقي. ومُسبباتها مزيج من العوامل البيئية والوراثية. ومن أعراضها السلوكية؛ الغرور، والانتفاخ، والمكابرة، والسماجة، والتفاهة، والحقارة، والسفاهة، والافتقار لمهارات التفكير وحل المشكلات.
والسودانيون يسمون هذه الدرجة من الانحراف الذهني وتدهور العقل في وظائفه العليا؛ “الأندراوة”. ويطلقون على من يسلك طريقها “أَهْبَل” و”هَبِيل” و”أَبْلَه” و”عوير” و”مهوس” و”هطلة” و”أشتر”. ويتفقون مع المتنبي في أن لا علاج لها ولا شفاء منها، ويقولون في ذلك (الجن بيتداوى كعبة الأندراوه).
و”الجنون” أو “الجن” في الثقافة السودانية، في عُمقيها الصوفي الإسلامي والكُجوري الأفريقي، هو نتيجةُ مسٍ شيطاني ومنه “الجن الفلكي”، والجن الكلكي اللابس ملكي. ويعتقدون في أن “الممسوس” بالأرواح الشريرة قابل للعلاج بالقرآن والرقية والضرب المُبرح والتقييد بالجنازير، والطب النفسي، فيما “الاندراوه” غير قابلة للعلاج، وهي موروثة لا مكتسبة؛ يولد بها الإنسان، وتظهر عليه أعراضها منذ الطفولة المبكرة. ويسمونها أيضًا “العوارة”. ومن “الأندراوة” ما يكون مزمنًا ومطبقًا، وهي “أندراوة كلية دائمة، ومنها ما يكون متقطعًا، يظهر حينًا ويغيب أحيانًا.

وفي أيامنا هذه، انتشرت “الاندراوه” حتى صارت لقبًا أكاديميًا، ورتبةً عسكرية، وفنًا من الفنون الجميلة. وكثيرون، ممن يتربعون على قمة السلطة ومن يؤثرون في الرأي العام ويخاطبونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي العديدة هم “أندراويون”.
وعلى الرغم أن التطورات تسوق للأندراويين، كل يوم، دليلًا تلو دليل، وبرهانًا من وراء برهان، على خطأ ما يحاولون إثباته، ولكنهم لا يحيدون. الناس تموت وتجوع وتتشرد، والحاميات تنسحب، والمدن تهوى، والبنى التحتية تتهدم، والرجال يموتون، والأطفال يتيتمون، والنساء تترمل، والمواشي تنفق، وهم في غيهم سادرون: بل بل بل.

والمُخرج والكاتب المسرحي الفرنسي جان كوكتو (1889 – 1963)، أبدع التجسيد والايجاز حين وصف مثل ما نحن فيه من حال، قائلًا:
“مأساة عصرنا، أن البلاهةَ أصبحت تُفكرُ”.
ونختتم بما قال البُحتري:
عليَّ نحتُ القوافي من معادِنها
وما عليَّ إذا لم تفهم البقر

الوسوم محمد-م.-راجي

التعليقات مغلقة.