مناديل ملونة

مناديل ملونة
  • 20 أغسطس 2024
  • لا توجد تعليقات

قصاصات

للمِنديل عند الناس، أياً كان شكله، استخدامات متعددة؛ فيستخدمه بعضهم في مسح العرق، وقد يتخذه آخر غطاء لرأسه أو يلفه حول عنقه، ومنهم من يزيل به ما يعلق بأصابعه إثر تناوله لطعام دسم. وقد يستخدم في أغراض أخرى، وأطرف ما استخدم فيه هو ما فعله الزعيم إسماعيل الأزهري حين مثَّل السودان في مؤتمر باندونق بإندونيسيا عام 1955، وذلك في مرحلة الحكم الذاتي، وقبل أن يتخذ السودان علماً خاصاً به، فاستخدم منديلاً أبيضاً، كتب عليه باللغة الإنجليزية “السودان”، ووضعه على رأس قلمه، ونصبه أمام مقعده.
واختار رسول الله r أن يضرب بالمنديل مثلاً لبيان ما عليه حُلل أهل الجنة من نعومة الملمس؛ بذكر صفة ما دون الحُلل مما يمتهن كالمناديل؛ ففي الصحيحين عن البراء بن عازِبٍ  قال: «أُهديتْ لرسول الله r حُلَّةُ حريرٍ فجعل أصحابُه يَلمِسُونها، ويعجبون من لينها، فقال أتعجبون من لين هذه..! لَمَناديلُ سعدِ بنِ مُعاذٍ في الجنَّة خيرٌ منها وأَلْيَن». فخصَّ المناديل بالذكر، ونسب إلى ملمسها تلك الصفة.
ومن المناديل ما يكون عظيم القدر؛ لارتباطه بعادة اجتماعية أو للظن بقداسته في عقيدة من يستخدمه، على نحو ما كان عليه المنديل الذي كان بكنيسة الرها، (حاليًا مدينة تركية باسم أورفة)، إذ يزعم النصارى أنه منديل عيسى (عليه السلام) الذي مسح به وجهه؛ فارتسمت صورته فيه، فلما زحفت جيوش الروم على أرمينية وديار بكر سنة 332هـ، قتلوا وسبوا كثيراً من أهلها، والتمسوا من أهل الرّها أن يدفعوا لهم المنديل ليطلقوا لهم أسراهم. فأفتى الفقهاء والقضاة بتسليم المنديل إليهم، فبعثوا به إليهم فأطلقوا الأسرى. وحملوا المنديل إلى القسطنطينيّة، فاستقبله رجال الدين والدولة في موكب كبير وفرح عظيم. ولعله قد لفت نظرك أنهم في بعض البلاد العربية يضعون منديلاً أبيضاً على يد المتعاقدَين على الزواج؛ لحظة عقد القِران، فتحسب أن ذلك لضرورة دينية ينبغي الالتزام بها، مع أنه لا يعدو أن يكون عادة متوارثة ترجع إلى العصر الفاطمي، ولا أصل له في الفقه الإسلامي، ويقول بعضهم أن هذه العادة أحدثت من أجل إخفاء المهر عن الناس، حتى يكون خاصًا بطرفي الزواج فقط..
وكثيرة تلك المواقف التي نستخدم فيها المناديل، لكن بعضهم إن لم يجد المنديل في متناول يده في أيٍّ من تلك المواقف، اجتهد فيما يتخذه بديلاً له؛ من ذلك أن جابر بن عبد الله ، فيما أخرجه البخاري في صحيحه، لما سئل عن الوضوء مما مسَّت النار (كالخبز واللحم)، قال: «كُنَّا زمان النبي r لا نجد مثلَ ذلك من الطعام إلا قليلاً، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ.» وجاء في طبقات ابن سعد «أن عمر كان يمسح بنعليه ويقول: إن مناديل آل عمر نعالهم.» فيتبين لك أنه ليس شرطاً أن يكون المنديل قطعة من قماش. ويؤكده ما ذكره المبرد في الكامل، قال: إن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، قال يوماً لجلسائه: أي المناديل أفضل؟ فقال قائل منهم: مناديل مصر، وقال آخر: مناديل اليمن. فقال عبد الملك: ما صنعتُما شيئاً، أفضلُ المناديل ما قال عبدة بن الطبيب:
‌لَمَّا ‌نَزَلْنَا ‌نَصَبْنَا ‌ظِلَّ أَخْبِيَةٍ
وَردٌ وأشْقَرُ ما يُؤْنِيهِ طَابِخُه
ثُمَّتَ قُمنا إلى جُردٍ مُسَوَّمةٍ
وَفَارَ لِلْقَوْمِ بِاللَّحْمِ المَرَاجِيْلُ
ما غيَّرَ الغَلْيُ منه فهو مَأكُولُ
أعرافُـهُـنَّ لأيدينا منَاديلُ

يقول: إنهم لما نزلوا وادياً نصبوا خيامهم، وطبخوا اللحم في القدور، واستعجلوا في تناوله، ولم ينتظروا أن ينضج تماماً، بل اكتفوا بتغير لونه، فإذا شبعوا مسحوا أيديهم في أعراف خيولهم المسومة. وقد سبقه امرؤ القيس حين قال:
‌نَمُشُّ، ‌بأعرافِ ‌الجيادِ أكُفَّنا… إذا نَحنُ قُمنا عَن شِواءٍ مُضَهَّبِ
أَي نمسح أَكفَّنا بأَعرافها لإزالة الدسم. والمضهب هو الشواء الذي لم يبلغ نضجه.
كذلك يعدَّ المنديل عند العشاق من أهم وسائل الذكرى، ومن أفضل ما يقدم هديةً للمعشوق، وكانوا يطرزون على طرف المنديل باقات من الشعر الرقيق لاستمالة الطرف الآخر، أو تظرفاً، على نحو ما كتبه أحدهم:
أنا مبعوثٌ إليكِ … أُنسُ مولاتي لديكِ
صَنَعتني بيديها … فامسحي بي شَفَتيكِ
ويؤدي المنديل وظيفة فنية في الأدب، على نحو ما أداها (منديل ديدمونة) في مسرحية عطيل؛ هذا المنديل صنعَتْه، كما جاء في المسرحية، “عرَّافةٌ من الحرير الذي صنعتْه ديدان قزٍّ مقدَّسة، وصبغته في سائل مُعَدٍّ من قلوب العذارى، وزينته بتطريز على شكل حبات فراولة “. وقد أهداه عطيل القائد المغربيّ لزوجته ديدمونة، الرائعة الجمال. فلما أسقطته ذات مرة سهواً؛ أخذته زوجة إياقو في غفلة منها، بتحريض من زوجها، ولم تكن تعلم أن زوجها يحيك خيوط مؤامرة لتدمير عطيل، والانتقام منه لأنه لم يُرقّه ملازمًا، بل اختار كاسيو بدلاً منه لثقته به، وأوعز لعطيل أن ديدمونة تخونه مع مساعده كاسيو، ويتمكن من إدخال الشك في قلبه، وإثارة غيرته؛ ويتخذ من وجود منديله عند كاسيو دليلاً على خيانتها له معه. فيقتلها عطيل خنقاً، لكنه لما علم لاحقاً من زوجة إياقو بالحقيقة، طعن نفسه بيده طعنة غائرة وصلت إلى القلب، ومات بجوار ديدمونة.
أما في رواية (زينب) لكاتبها محمد حسين هيكل فقد تم توظيف المنديل تذكاراً للمحبوب، وتعويضاً عن فراقه.. جاء في الرواية أن زينب رأت منديل إبراهيم في تلك البقعة التي كان جالسا فيها لآخر ساعاته معها قبل سفره إلى السودان؛ فانحنت إليه وأخذته؛ فمسحت به دموعها، ثم قبّلته مرات ووضعته على قلبها الآسي الحزين. وبعد سفره تدهورت صحتها، وأصبحت شاحبة اللون، ولا تزال في قشعريرة مستمرة ّ تحس بالبرودة والسخونة تتعاورانها. وإذا ما خف ّ أثر ذلك جاءها السعال يهز جسمها ً النحيل.
ثم تقرأ في نهاية الرواية: ” ثم طلبت زينب إلى أمها أن تأتيها بمنديل محلاوي موضوع في صندوقها، وأخذته بيدها فوضعته على فمها ثم قلبها. وكانت آخر كلمة لها أن يوضع المنديل معها في قبرها. وفي وسط الليل أقفلت عينيها، وراحت إلى أعماق سكونها، وارتفع صراخ العجوزين يعلن في الفضاء موتها “.
وقد في حلمك منديلاً فتأخذك الحيرة ، فإذا رجعت إلى موسوعة تفسير الأحلام ذكر لك أن المنديل ينبئ في الحلم بمسرات وأفراح عابرة بالنسبة لمن يراه. وبالنسبة للمرأة: إذا رأت منديلاً قذراً في الحلم فهذا ينبئ بأنها سوف تتعرض لإغراء يجرها إلى سبيل الخزي والعار. وإذا فقدتَ منديلاً فإن هذا ينذر بعمل فاشل لا يد لك فيه.. عندئذٍ من حقك أن تقول إن ما قالوه زخرف وكذب؛ تخرصاً وأحاديثاً ملفقة .. كما قال أبو تمام في التنجيم .. ولكن قد يصدق ..!!!

الوسوم قصاصات

التعليقات مغلقة.