منذ إطلالته في السبعينات من القرن الماضي ظل د. عبد القادر سالم رابع أربعة من مبدعي كردفان الأفذاذ، الذين رغم تنوع البدايات والمنابع والبيئات والمشارب إلا أنهم الرباعي متشابه في الابداع والإيقاع والتهذيب. عبد القادر سالم يشبه إبراهيم موسى أبا في استخدام (التصغير) مثلا وكليهما يشبهان صاحب في مسير نسيمك يا الهبيب سلميلي على الحبيب المهم تلقيهو طيب … خليل إسماعيل وهو في عذوبة أنغام عبد الرحمن عبدالله أحياناً ود بارا. الأربعة من خلفيات لها صلة بحلق التعليم، عبد الرحمن عبدالله كان رفقة خاله المعلم في خور جادين وعبد القادر معلم (عديل ) كتب على السبورة في السودان وفي خارجه وخصوصا في دعم مدرسة الصداقة في تشاد. وما يجمع بين الأربعة أكثر من التشابه، إذ ما يميزهم احترام الذات ومحبة الناس والبلد والنزاهة والترفع عن السقوط في درك الوقوف على باب السلاطين. ولهذا مهما تحاول أن تغربل الفضائل التي تميز بينهم ستجد أنهم لحد ما متطابقين.
مع ذلك فإن اتحاد الفنانين لم يعرف في تاريخه فنانا في تهذيب وتواضع وأدب عبد القادر سالم. أقلها راينا بعض فنانين كبار، لهم سقطات ومواقف يصعب تبريرها. لكن د. عبد القادر تفرد بصورة البدوي واخلاق المدرس الذي يقاوم السقوط (زي ) ما تقاوم الريح شجر المهوقني والسيال والعرديب ولبخ بارا التي تغنى له. لم يسقط عبد القادر في نظر نفسه ونظر محبيه وهم على امتداد بلاده وافريقيا بل وعلى مستوى العالم.
ولا عجب لقد جاء عبد القادر سالم إلى الفن من حقل التعليم ومنه استمد المناعة الاخلاقية. وهو العصامي الذي يكسب تلاميذه معاني العصامية. لهذا شق طريقه إلى عالم ليس له فيه شلة ولا كتاب يروجون لفنه، ولكنه انخرط في قراءة متنوعة ومكثفة حتى حصل على درجة الدكتوراه. وفي آن شق طريقه في ضروب الفن ليؤسس مدرسة جديدة في الغناء السوداني ويقدم تراث بيئات كانت مستبعدة ثقافيا. وبفضل جهوده تفتح ازهار وتفتحت مدارك المستمع في تلك البيئات إلى أن هناك اعتراف رسمي وشعبي بفنونه يذاع من هنا أم درمان. مثلما تفتحت مدارك السودانيين بعامة على موسيقى جديدة بسلم جديد وبصوت لا يشبه الا صاحبه. وانداحت دائرة التاثير الى المستمع العربي الذي يكتشف لاول مرة وجود موسيقى سودانية عربية الإيقاع والنكهة والمفردة والتطريب الزريابي. لقد عرّف عبد القادر اهل السودان على الجراري وهو ضرب من التراث تستخدم فيه الحنجرة والمفردة التي تماثل الموشحات الاندلسية نسمع صداها عند المغنية:
الغالي تمر السوق كان قسموه ما بحوق
زولا سنونو بروق في محكمة زانوق
قوم يا بخيت احلب لي
لبن ام زور طائق لي
داك براقا قبلي
فوق عربي وفوق ابلي
فضلا عن اغنية
الليلة والليلة دار أم بادر يا حليلة.
وكان الجراري تقليدياً يغني بالتصفيق الجماعي مع الكرير بالحناجر ولكن عبد القادر ادخل عليه لمسات موسيقية مدهشة، احدثت اثرها على امتداد جغرافية تتمدد من شمال وغرب كردفان إلى أقصى شمال دارفور وشمال شرق تشاد.
وإحياء عبد القادر للجراري احي معه الهسيس الذي يتميز عن الجراري بانه أكثر خفة في إيقاعه ومفرداته.
كما أضاء د عبد القادر تراث التويا وهي مطارحة يرتجل فيها شاعر قصيدة ويرددها معه رجال ونساء في شكل كورس. وقد تكون التويا بين اثنين من الشعراء. واذكر في السياق مطارحات عمنا بشير ود حامد، وقد كان من فرسان تويا وزميله المقابل الشاعر على ود العشاري شقيق المهندس عبد رب النبي العشاري، وكانا من الراسخين ويقطعان الشعر أخضرا كما يقولون. وليت الدكتور عبد القادر يجد الطاقة والصحة والعافية ليعطي هذا التراث المزيد من الحيوية.
لم يغني عبد القادر لجماعة واحدة كما قد يتبادر ولا لبيئة معينة ولا لشعراء كردفان لشعراء متميزين كما تغنى بإيقاعات الكرنق وهي حسب بعض الدراسات تتغنى بها حوالي 99 قبيلة من قبائل جبال النوبة والشلك والنوير. المدهش دمج عبد القادر لرقصات وايقاع الكرنق في المردوم ولذلك صار الفنان يجمع بين الإثنيات ويجعل الكل راقصين ولو وجدانيا ويحول المسرح إلى ساحة تفاعل حي.
وغني عن القول أن عبد القادر نقل المردوم من محليته في جنوب كردفان وعند قبائل البقارة إلى آفاق واسعة في افريقيا وأنحاء العالم، وقد شاهدنا عبد القادر في مهرجانات عالمية وهو يجتذب شباب العالم ليضرب معه الأرض بالأرجل بإيقاعات منتظمة ومرتبة وموموسقة – وشفنا الشباب والشابات يرددون: الجنزير التقيل، والله الليموني واللوري حل بي وداني لي الودي. وبينما يضربون الارض بارجلهم ومع سرعة الإيقاع وقوته العالية ترى امامك لوحة ابداعية عالمية نقلها عبد القادر من سكونها ومحليتها إلى سقوف السماء والى قاعات معاهد علوم الموسيقى في العالم. ولم ينسى عبد القادر تطوير الدوبيت فقد نفث فيه من نفحاته واحياه بعد انزواء وسيأتي شباب يستأنفون هذا المسعى في بعث التراث وتوظيفه في الوحدة والسلام والإخاء .
ان تأثير دكتور عبد القادر على جيله من الفنانين الذين قدموا الأغنية الكردفانية كبيراً وجذرياً وخاصة على فرقة فنون كردفان، وعلى إبراهيم موسي أبّا، وصديق عباس، وعبد الرحمن عبد الله وحتماً في الحان جمعة جابر. ويشير نقاد إلى تأثيره على توجهات الفنان الشباب ومنهم محمود عبدالعزيز والفنانة شادن وآخرين.
ويقتضي الأمر وقفة مع أبرز اغنيات د عبدالقادر سالم مثل (مكتول هواك يا كردفان) وهي للعلم من تأليف المعلم عبد الجبار عبد الله وهو من أبناء منطقة الجيلي شمال الخرطوم، وفيها قدم الشاعر تجربته الشخصية في محبته لكردفان وكان يعمل مُعلماً في ربوعها. ومثلها اغنية (ودعتين) لهاشم صديق ويقول مطلعها “ودعتين من مِفْرَق الشَعَر الاصيل زانت جبينِك وتاوقَن. ودعتين شَدَهُو الجبين ولاّ الجبين شَدَه الوَدِع نامن عليهو وسَلّمن… يا بنيه ، وفي هذا الملمح تتجسد القومية عند المعلم عبد القادر وتتجسد قدراته في توظيف الفن كصمغ يربط بين اواصر النسيج الاجتماعي والثقافي في بلد متعدد الثقافات والأعراق.
المال في السودان اما من (كفر) او وتر ، اي اما في الكورة أو في الفن فهذه هي مصادر المال (الوافر) ربما النفوذ والوجاهة. ويصح القول إن بعض الناس الذين امتهنوا الفن في السودان تحصلوا على المال والماديات ولكن بالإسفاف والسقوط. ربما وحده الدكتور عبد القادر سالم أو لعله من القلائل الذين ترفعوا على الحصول على الثراء المادي من السفاسف والسقطات. وهذا هو سر الاحترام. لم يعرف عن عبد القادر ما عرف عن الظواهر الفنية الظرفية. ومنهم مفارقات فقد (قيل) أن احدهم من كثرة “السيولة ” المالية كان يتبعه حراس لزوم (الايغوزم) . لكن كبار ظلوا في ثباتهم حتى لو يقتلهم المرض والوجع.
لذلك عندما قرر الاطباء اجراء عملية الفنان عبد الرحمن عبدالله سارع السودانيون إلى تكوين لجنة قومية لعلاجه. لأنه محترم ولعلمهم برقة حال امثاله. وقامت روابط اجتماعية اقليمية بدور مهم في دعم حملة علاج ود بارا. ومثل ذلك في قصة تكوين اللجنة القومية لعلاج الفنان محمد وردي رحم الله الجميع. واليوم عندما تنقل الوسائط صور الفنان عبد القادر وهو طريح الفراش الأبيض في أم درمان فان المتوقع أن يتنادى محبيه ومحبي الفن الراقي للوقوف إلى جانبه. وأرجو أن يتم ذلك بتكوين لجنة قومية لعلاج الفنان الكبير عبد القادر سالم وفاءا مستحقا لصاحب عطاء متصل. وعبد القادر رمز وطني لم يوالي إلا السودان ولم يحب إلا مواطنيه ولم ينضم إلا لاهل الابداع ولم يمالئ فئة إلا أولئك الغبش الذين غنى لهم وشاركهم مآسيهم وأفراحهم وبعث تراثهم ومنحه قبلة الحياة. اذكر أنه في احدى زياراته إلى السعودية دعته جاليه من الجاليات وصادف أنها لم تكن على وفاق مع سفير نظام البشير، فحاول التشويش على د عبدالقادر سالم. وطلب مني اعضاء الجالية بصفتي رئيس رابطة شمال كردفان التدخل. فذهبت ومعي جماع مردس، إلى الدكتور عبد القادر في الفندق، وقابلنا بترحاب جنى الوزين لنسائم الخريف. وقال لنا جهزوا انفسكم نمشي معا. لم يكن ليخلف موعده فهو المربي والمعلم قبل أن يكون فناناً. ونحن في الطريق اكتشفت أنه موسوعي في إحاطته وسودانيته وفي تواضعه وتهذيبه وإطلاعه.
ومن المشهور في السودان القول إن فلاناً شق طريقا صعبه على غيره ولن يمشيه إلا هو. والدكتور عبد القادر سالم صعب مهمة غيره، في تجسيده العصامية والأصالة وفي تقديم صنفاً صار نادراً بين الرجال. انه أرسطو المبدعين. بل هو اقرب لوصف الثعالبي للجرجاني: “وكان في صباه خَلِفَ الخَضِر (يعني خليفة الخضر) في قطع الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم عَلَما، وفي الكمال عالما، فهو حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العِلْم، ودُرّةُ تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة، إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه”
وعبد القادر سالم كذلك ابن بطوطة الفن فقد سافر للقبل الاربع وغني في اغلب مسارح العواصم الكبرى واكتسب معارف واصدقاء وتحارب ستصعب من مهمة الفنان السوداني ليس في الابداع والإطلاع والعصامية وانما في والإلمام والإحاطة بثقافات الشعوب والثبات على الاصالة والتزام بالخلق السليم والترفع عن التكبر.