خليل المهدي: من تواريخ النوبة المشعة الي المهدوية

خليل المهدي: من تواريخ النوبة المشعة الي المهدوية
  • 18 سبتمبر 2024
  • لا توجد تعليقات

جبير بولاد


.. نعي إلينا الناعي قبل يومين رحيل عمنا الصديق/ خليل محمود الحاج( المهدي) و خليل هو قصة عجيبة من قصص السودانيين التي تعج بها أرض الأنهار و الثورات و الذهب و الصمغ و المسغبة، تخلل كل ذلك تجارب فكرية مرت كومضات البرق و احتفي بها قليل، لأن السودان في صراعه التاريخي أو على الأقل منذ ميراثه من تركة المستعمر لم يهنأ له بال ليقوم أو يُحسن التملي في تلك التجارب الفكرية التي مرت به، ففي هذه التجارب كانت الفردية تطغي علي الجماعية و النبوءات إما منكورة أو لازمتها سخرية اجتماعية ضاحكة .
.. خليل محمود المولود في وادي حلفا القديمة منطقة عكاشة، مرجح أن يكون أوائل الأربعينيات ، تشّرب وجدانه و عوده من مياه النيل و تشبعت خلاياه من قمح وقف علي أرض النيل و استسقت سيقانه منه، و من سبائط نخله تغذي فؤاده فكانت عيناه تشُع ذكاءاً فطرياً، و خليل لم يتمدد في التعليم كثيرا فقد تكفّي’ بمرحلة الكُتاب (بضم الكاف) و اتجه إلي حفظ القرآن و دراسته ثم ارتحل إلى الخرطوم و تعلم فنون الحدادة من عُمر مبكر و صار حاذقا فيها و لكن لم تلهيه مهنة الحدادة و اكتساب الرزق من اسئلة الذهن العميقة في حقائق الوجود و قضايا الدين و التدين الشائكة، فدرس القرآن و تمددت أفكاره فيه حتى أنه مقتديا بالنبي عليه الصلاة والسلام عاد إلى وادي حلفا ( عكاشة) بأسرته الصغيرة ثم آوي إلى جبال حلفا القديمة و نيلها الذي ارتبط به و لم يهاجر إلى حلفا الجديدة (خشم القربة) صار يتعبد و يتأمل و يرعي الاغنام حيث كانت زوجته الراحلة خالتنا عائشة(عيشة) ترفده باحتياجاته من الطعام و ما يلزم في صبر و جلد من زوجة مُحبة تجاه زوجها حتي خرج مُشعا برأي و روح فريدين تخصانه و تخص تجربته الفردانية في المعرفة اتفقت ام اختلفت معها .
.. بعد إعلان النميري قوانين سبتمبر المسمي بُهتانا بقوانين الشريعة الإسلامية عاد خليل محمود إلى الخرطوم في بيته في ذاك الحي الشعبي(الكلاكلة) يتأمل في تجربة هذه القوانين الجديدة و لما تبين له خطلها و مفارقتها للإسلام طفق في معارضة النميري و كان يتم اعتقاله و ضربه وتعذيبه ثم يطلق سراحه، ثم ما يلبس ان يخرج في المسيرات المؤيدة للنميري و نظام مايو كان يخرج بيافطات مناؤية و ضد النميري و نظامه تحوي شعارات السقوط لنميري و سماه الطاغوت ، ثم عندما يلتفت ليافطاته القماشية افراد الأمن يقومون باعتقاله و يخرجونه من مسار الاحتفالات و يتم تعذيبه ثم إطلاق سراحه من جديد و ظل علي هذا الكفاح و النضال حتي سقط نميري و نظامه الآسن و بعد هذه المرحلة طور خليل من ادواته لتشمل المنشورات المكتوبة و حلقات النقاش و كان لديه سعة للحوار مفقودة عند السودانيين في طولة بالها و الحاحها المشفوع بالصبر، فخليل من الممكن ان يحاورك لسنوات دون كلل ،كما كنت احاوره كلما التقيه بعد سنوات يستمر الحوار لساعات وسط طُرفاته الحاضرة و سماحة روحه فهو لا يعرف الغضب و حاور الناس في مساجد العاصمة المشهورة( شروني و النيليين و الكلاكلة و …الخ) و علمت من جمهوريين عديدون أنه كان يزور الأستاذ محمود محمد طه في بيته ليحاوره و يطرح عليه الاسئلة و لم يكن من كسالي الذهن و ضعيفي الفكر ليكتفي بتقييم الناس لك ، فخليل كان يبحث عن المختلفين ليعرف فيما يختلفون و ما هي الجواهر التي عندهم و غابت عن بصائر الناس و هذا لعمري هو الإنسان الحر يفكر كما يريد و يقول بما يفكر و يعمل بما يقول .
.. عارض حقبة الاسلامويين ايضا بشراسة و شجاعة و ظل علي هذا المنوال حتي سقطت المنظومة الفاسدة.
.. خليل أعلن ان خلاص السودان و السودانيين هو علي مقامية المهدي الذي يأتي ليحل كل هذه التعقيدات فانتدب نفسه لهذا المقام و بشر بأنه المهدي و كان مشروع محاورة فكرية متحرك، يناقش في كل مكان فما التقيته في مناسبة إجتماعية او عيد من الأعياد و إلا كان خليل المهدي نجم هذه الملمة بمواضيعه الفريدة و العجيبة .
.. آخر مرة التقيته قبل سنوات ، التقيته صدفة امام منزله، فرحب بي و ادخلني منزله العامر و صحن التمر حاضر و اعطاني كمية من المنشورات حتي التي اصدرها في فترة غيابي عنه، تتاقشانا كثيرا و كان في حفاوة منه يعطني مرتبة آل البيت فيقول لي انت من آل البيت يقصد بيته كمهدي، فأمازحه يا المهدي انا لا اعرف اللغة النوبية، فيقول لي سنعطيك كورسات فيها، فكما تعلمت الانجليزية يمكنك تعلم اللغة النوبية، فأضحك انا لجديته التامة في كل ما يتعلق بمشروعه المهدوي و افارقه علي وعد باللقاء بعد سنوات اخري، و لكنني ادرك الآن بكل حزن انني لن التقيه إلا في روحي و ذاكرتي المشحونة والحوارات التي كانت بيننا و تبادل الافكار والمواقف و كذا التقيه في ذريته التي جاورتنا و كانت سمحة في جيرتها و معشرها و نسأل الله لخليل الرحمة والمغفرة و الرضوان و يجعله من اهل القرب و يكرم وفادته إليه .

جبير بولاد
18/9/2024

الوسوم جبير-بولاد-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*