الرواية الشفهية وكتابة التراث المحلي

الرواية الشفهية وكتابة التراث المحلي
  • 19 سبتمبر 2024
  • لا توجد تعليقات

علي أحمد دقاش

كنت عائدا من صلاة الجمعة بمسجد الصحابي عقبة بن عامر الجهني بالمقطم شرق القاهرة وسيدنا عقبة هو أحد الصحابة الذين يضرب بهم المثل في أثر الإسلام في تغيير النفوس صليت في مسجده وزرت قبر الصحابي عمرو بن العاص فاتح مصر وواليها في عهد سيدنا عمر بن الخطاب .
قابلني الدكتور أحمد الحسب عمر فباغتني بسؤال مفاجئ عندما علم بوجهتي التي جئت منها .
قال د.الحسب :
مع احترامي للتاريخ الإسلامي ورموزه لكن لماذا لا تكتب عن رموز مجتمعنا المحلي وتاريخهم ألا يستحق هؤلاء أن نؤرخ لهم !!
من يكتب عنهم إن لم نكتب نحن.!!
وقفت طويلا عند سؤاله وتذكرت المقدمة المنهجية عن الرواية الشفهية التي صدر بها المرحوم إبراهيم إسحاق إبراهيم كتابه : ” رحلة الهلالين من جزيرة العرب إلى شمال أفريقيا وبلاد السودان” وهو سفر مهم خاصة في ظل اللغط الذي دار في الأيام السابقة حول من أطلق عليهم عرب الشتات.
يقول إبراهيم إسحاق في مقدمته المنهجية :
” إن علمية المعرفة التاريخية دفعت بالنعرة الوثائقية للهيمنة على ماعداها من المصادر الشئ الذي أرجع التراث الشفهي وغيره من المصادر غير الوثائقية إلى المقاعد الخلفية .
أورد إبراهيم إسحاق راي للمؤرخ الإنجليزي إي .اتش كار.
[E. H. Carr]
قال فيه :
[ إن القرن التاسع عشر في سعيه وراء الحقائق تردي في تقديس الوثائق وأن رجال التاريخ صاروا يقتربون من الوثائق بهامات خفيضة ويتكلمون عنها بإكبار ورأيهم عنها دائما هو أنه إذا وجد الأمر في الوثائق فهو كذلك بالرغم أنه ليست هناك وثيقة تخبرنا بأكثر مما يفكر به مؤلفها ويفكر أنه قد حصل ومايفكر أنه يجب أن بحصل ]
قال إبراهيم إسحاق كذلك أن همنا هو أن نثبت أن العلمية هي في إخضاع الدارس كل مصادره دونما تمييز للنقد المنهجي المؤسس له في علم التاريخ وقال إن أدب التاريخ العربي يعاني من عقائدية تركز على إهمال تام للتراث الشفهي وعدم اعتباره مصدرا من ومصادر التاريخ.
أورد إسحاق أمثلة عديدة من الواقع السوداني تبين علو كعب الرواية الشفهية في السودان.
تفكرت في ذلك طويلا وأعترف أنني لم أكن بريئا و لا معافي من فوبيا الوثائق .
عادت بي الذاكرة إلى أيام الدراسة الجامعية عندما كنت أدخل ساحة أركان النقاش وأنا أحمل شنطة مليئة بالوثائق أواجه بها خصومي السياسين وكان زملائي في الاتجاه الإسلامي يقدمونني علي أساس أني رجل الحقائق والوثائق .
عجبت كيف غفل الباحثون ورهنوا انفسهم للوثائق وتنكروا للروايات الشفهية ولم يهتموا بها . كيف غفل هؤلاء عن أن أصح كتب الأحاديث النبوية مثل البخارى ومسلم مبنية أساسا على الرواية الشفهية بعد إخضاعها لمناهج صارمة في الضبط والتخريج.
الشئ بالشئ يذكر عند خروجنا من مدني بعد وقوعها في أيدي الدعم السريع اتجهنا نحو سنجة فاستضافني وأسرتي صديقي وجاري في أمدرمان سيف الدولة فضل المولي في قريتة الرايات شمال سنجة.
سألت سيف الدولة عن تاريخ تأسيس قرية الرايات وأصل تسميتها فدعي لي الشيخ عبد الرحمن أحمد محمد خير حفيد الشيخ محمد خير أحد شيوخ الإمام المهدي ليجيبني .
حدثني عبد الرحمن وهو شيخ طاعن في السن عن سقوط المهدية ومذبحة أهل المهدي في الشكابة وكيف تم تهريب الإمام عبد الرحمن المهدي والشيخ إسماعيل بن الخليفة شريف وعدد من آل بيت المهدي وآل بيت الخليفة عبد الله بالمراكب فعبروا النيل الأزرق نحو الضفة الشرقية وتحركوا جنوبا حتي وصلوا منطقة كثيفة الغابات تصلح لصناعة المراكب نزلوا فيها ورفعوا رايات وبدأوا صناعية المراكب فسميت القرية التي أسسوها بالرايات معظم سكانها كان دناقلة ثم اختلط بهم آخرين لاحقا أما التعايشة أهل الخليفة عبد الله فأسسوا قرية إلى الغرب من الرايات تسمي الرماش لا تزال باقية في مكانها حتي الآن.
حدثني الشيخ عبد الرحمن كيف ازدهرت صناعة المراكب وأصبح جدوده متعهدين لصناعة المراكب في كل المنطقة حتي للحكومة.
وحدثني كذلك عن الصراع بين الخليفة عبد الله وجدوده الأشراف حديثا ليس فيه أي تحامل على الخليفة كما يتوقع الناس.
ذكرت ذلك لأؤكد أن الرواية الشفهية يمكن أن تكون مصدر أساسي لكتابة تاريخنا المحلي لو استطعنا إخضاعها لمنهج ضبط
صارم .
دعوة د. أحمد لتدوين التراث المحلي مقبولة ولكن مطلوب من أمثاله المساهمة في وضع منهج للاستفادة من الرواية الشفهية ولعل معهد الدراسات الأفريقية والأسوية وشعبة أبحاث السودان بكلية الأداب مرجعيات مناسبة لإجازة هذا المنهج.
تراثنا المحلي غني بالمعارف والرواية الشفهية مصدر مهم لهذه المعارف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*