مكي بابا: عودة الروح للجسد

مكي بابا: عودة الروح للجسد
  • 25 سبتمبر 2024
  • لا توجد تعليقات

حكيم شمية

عندما عاد جنود القائد المنتصر تهارقا بعد هزيمة الأشوريين وطردهم من القدس، اُستقبلوا على تخوم كرمة من قبل أمهاتهم بأهازيج النصر على إيقاعات الطار كومبا كوش- كومبا كوش، وكللن الجنود بوشاحات من سعف النخيل. قبل عامين سكب تهارقا الفن النوبي عصارة أشواقه في أغنية موحية(إركل مشكلين أيقا) برفرفة أجنحة ارتياد آفاق العودة، والحنين التي تلك البقاع التي شكلت وجدانه، و روت ظمأنا برحيق من نبيذ العشق والإنتماء، حتي ثملنا وهو يحمل لواء التمسك بالأرض المقدسة. الحديث عن مك الناس ذو شجون، وفي حضرته يبدأ الاندياح ولا ينتهي أبدا، فما أحلى الحديث تحت عرش سيد اللغة والحكاوي وملكها المتوج بلا منازع. ذات حكاوي مترعة بالجمال، تحدث عن صخرة في عبري تسمى ب(كوركدين كد) وهي صخرة تعادل تلك التي في روايات حرافيش نجيب محفوظ، فمن يستطيع رفعها أعلى من مستوى الرأس ينصب مهيبا بين شباب المنطقة، ويصبح مرهوب الجانب، يختلس الصبي المتمرد أوقات قيلولة الأهالى، وهي مقدسة عند النوبيين لمن يعلم ذلك، ويذهب للتدرب على رفعها حتي أتقن ذلك وبحرفية أبطال رفع الأثقال. ثم أعلن على الملأ بين الشباب أنه سيقبل التحدي لرفع كوركيدن كد، تجمهر الجمع من كل حدب وصوب في اليوم الموعود، فمن يقبل التحدي أمامه خياران، فإما شاكرا وإما كفورا، فمن يعلن التحدي ويفشل يسجل للأبد في خانة الضعفاء مهيضي الجناح الذين لا نصيب لهم في دوري الأقوياء الذين يشار إليهم بالبنان. أمسك الصبي فارع الطول بالصخرة وحركها من مكانها، وأنظار الجميع مصوبة نحوه، الضعفاء يحلمون بانتصاره، ويعني انتصارهم، بينما الأقوياء ينتظرون لحظة أن يصرخوا: فرووووورا، دلالة علي الاستهزاء. جلس بجانب الصخرة على الأرض، وركز قدميه علي الأرض، و جعل ثقل الصخرة كلها مرتكزة على عضلات فخذه، ورفعها رويدا رويدا حتي تجاوزت كتفيه، وزع الثقل بين عضلات الفخذ والأكتاف، ثم هب دفعة واحدة بظهر مستقيم صارخا بقوة:هووووووووبا، فاتحا رجليه بزاوية حادة، واستقرت الصخرة الضخمة ثابتة أعلى الرأس بين يديه القويتين. وقف الحضور مشدوهين لهول ما رأوا، فللمرة الأولى يرون شخصا يرفع الصخرة بهذه الطريقة… ظل واقفا لعدة دقائق وسط تهاليل المستضعفين، ونظرات الخيبة من الجانب الآخر. ثم قذف بالصخرة من موضعه بعيدا، فانشطرت إلى قطعتين، معلنا بذلك نهاية أسطورة كوركيدين كد على يديه، وتنصيبه كوركدا أسطوريا للأبد. مكي المبدع الملهم يحتاج لمداد البحر، أما مكي الإنسان فله بعد آخر، لكل منا جانبه المشرق والمظلم في حياته، ومكي إنسان في الأول والأخير(مرجارا) إلا أنه يكفيك أن تعلم أن هذا الإنسان لا تسمع منه إلا خيرا في حضورك أو غيابك، لا يغتابك، بعيد عن جرثومة الانتقاص من الآخرين المتفشية بين قبيلة المغنواتية، ولأنه من هو، ينوم ملء جفونه كما يليق به. لا تمل مجلسه، تواضعه، حفاوته الدسمة، مستمع جيد، ذكي ولماح، متحدث بارع يأسرك بحديثه، يوزع اهتمامه أثناء الحديث على كل الحضور،كساقي دكاي معتق، حتى تخاله يحدثك أنت وحدك، فكاهته حاضرة، شغوف بالتراث والأصوات والأشكال و مواضع الجمال، فحق لنا أن نستمتع بذلك القادم من زمان سحيق، ربما كان أحد الذين نقشوا على صم الأحجار، و رددت تراتيله المعابد في بوهين وكرمة والبركل وأبسمبل. مكي هو أجمل حكاوينا، و أدسم غناوينا، هو صوتنا الذي زلزل ساحات الصمت معلنا: نحن قادمون، وسار الجميع علي هدى ترانيم أيسب دون وجل أو خوف، دخرينا وقت الحارة، وبلالنا في المسرات، وبلّال سيد الاسم ناداه العرب ب (بِلال) وللعرب في لغتهم شئون. وبما أنه بلّلال جلدنا وما بنجره في الشوك، وبما أننا أرسلنا بلّالنا الأول ليؤذن في العرب، ويهذب توحشهم بالمناداة للصلاة، ها قد بُعث فينا حفيده ليجمل واقعنا، كيف لا و هو مكي علي إدريس بلّال. بالمناسبة دى فى واحد من ناس صاى خريج أزهر وجاء البلد يديهم وعظ..والناس قاعدة ومتلمين..قال الأزهرى: مرة الرسول بيدى الوعظ جا صحابي خاشي والرسول سأل : ربطت الناقة؟ الصحابي قال ليهو: لا..وطوالي الرسول قال لبلال: قوم يا بلال أربط الناقة وتعال..، وقبل ما يكمل الأزهري حديثه، سأل أحد الحاضرين (كان راقد على جنبه) الأزهري : بلال مشى ربطو؟ الأزهري رد على السائل قال :لا ما مشى. واحد تاني من ناس صاي قام على حيلو وقال بصوت عالي : جدع يا بلال، و خرج من حلقة الوعظ ساخطا. أطلق الإعلامي نوري عثمان نداءا لتأسيس مركز ثقافي باسم مكي، و وجه نداءه للاندية الثقافية لتبني الفكرة، وأتمني أن أضيف علي نداءه اقتراحا أن، يتبني نادي ترهاقا بدنقلا هذا المشروع بمشاركة الأندية والفعاليات الثقافية علي امتداد النوبة، وأن يكون المقر الرئيسي لهذا المركز في مباني النادي(بصورة مؤقتة لحين إنشاء مركز متكامل) ، على أن يطرح إنشاءه للمساهمة العامة من الجميع على امتداد النوبة من أقاصي دنقلا حتى نصر النوبة، كفرض عين، سواء في المنطقة أو المهاجر، وأيضا للمهتمين من غير النوبيين، ويكون تدريس اللغة النوبيين، أول اهتمامات هذا المركز بالإضافة لدوره الهام في الثقافة والفنون والتاريخ والتراث. عموما الفكرة مفتوحة للنقاش لكي تتبلور، حتي لا يكون انفعالا لحظيا من وحي الاستقبال الدافئ لعودة الطائر المحب للترحال، والعاشق لعش المهد. (الزول ده أمسكوا فيهو قوي أو شوفوا ليكم فكي كارب) مش هو البيقول: جتا بندريل ساين،، شوورتن تدو جووقكا؟.رسالة أولى: إجعلوا من عودته مهرجانا للفرح واستعادة أمجادنا العريقة، فالوطن يكاد يفلت من أيدينا، ومستقبله بين أيدي من لا يخافون ولا يرحمون، فلنستعيد ما نحلم به فالوقت قد حان.

الوسوم حكيم-شمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*