1
توقفت سيارة اللاندروفر الحكومية التابعة لمجلس ريفي السكوت والمحس بعبري أمام أم المدارس بدلقو وهبط منها الوجيه حسن طه أبايزيد كبير الصيارفة حاملا صندوق المرتبات يتبعه شرطي ببندقيته والسائق فأخذوا طريقهم لمكتب مدير المدرسة أستاذنا عبد الخالق عباس وسط احتفاء هيئة التدريس.
على أكواب الشاي باشر حسن صرف المرتبات بدءا بالمدير، يليه الوكيل الأستاذ بكري سر الختم، فالأقدم الأعزاء: صالح إدريس، جعفر أبوبكر، نجم الدين أرو ، وأخيرا شخصي فقد كنت جديدا ” لنج “، وأصغرهم سنا ” 17 سنة ” وبالطبع أدناهم مرتبا، الذي بلغ 18 جنيها و46 قرشا تعد ثروة بمقاييس زمنئذ سلمت لي جديدة بما فيها الفكة المعدنية، ناقصا 25 قرشا .. لكن لماذا؟
كان قد وصلني قبله خطاب رسمي بالبريد من إدارة التعليم بعبري يفيد أنها قيمة كتاب أستعرته ولم أعده لمكتبة معهد التربية شندي، الذي تخرجت فيه حديثا.
بالفعل بنهمي القرائي كنت كثيرا ما أستعير الكتب، آخرها كتاب بعنوان ” كل شيء عن دنيا الحشرات ” خلال أسبوع التخرج وفور إنهائي قراءته حمله مني زميل سافر به لمنطقته في زحام الوداع.
وكان الدرس الأول في حياتي العملية ألا أستهين بالمال العام مهما تضاءل! فالحكومة لن تتركه وإن ” دقست ” ما حلي مع شعب بأكمله شركاء فيه بينهم المعوزون واليتامى والأرامل؟!
2
وصلت مطار أبوظبي الدولي مساء فحاولت الخروج غير أن ضابط الجوازات تعلل بأن مهنتي في الجواز عامل تحول دون خروج مسافر الترانزيت فدفعت بشهادة إجازتي مترافعا بأنني صحافي أنتمي لكبرى المؤسسات الصحافية في الرياض ومهنة العامل هي ما جئت بها من السودان لكنه تمترس في لطف، معتذرا بأنه مقتنع بصدقي لكنه يتعامل بما مدون.
وصلت لقناعة أنه لا جدوى فاتصلت بأصدقائي المنتظرين بالخارج، الذين شجعونا على ترتيب خروجي للقياهم وأعدوا برنامج عشاء جماعي أسري في ضيافتي وطلبت انصرافهم شاكرا.
جلست حائرا على مقعد تجاورني فيه حقيبتي الكتفية، متابعا أفواج المسافرين المغادرين والآتين من كل بقاع الدنيا.
بعد قليل توقفت قبالتي طائرة هبط منها شخص أسمر فارع تحف به حسان شقراوات، وتتابعه عشرات عدسات المراسلين المتوهجة.
يا الله إنه بيليه نجم البرازيل، الذي صنف رياضي القرن، وواحدا من أهم 100 شخصية مؤثرة في العالم.
قفزت من مكاني حتى صرت مع عشرات غيري جزءا من موكبه، الذي مضى سريعا حتى غاب عني.
يا للمفارقة
حزنت لعدم تمكني من لقاء صحابي وعوضني الله برؤية شخصية عالمية مرموقة وجها لوجه.
أقدار عجيبة!
قضيت ليلتي تلك في المطار بين مقعدي ومسجد المطار، الذي أيقظني فيه دخول المدركين صلاة الصبح.
عند العاشرة صباحا أقلعت بنا رحلتنا للعاصمة الهندية نيودلهي، التي ضم انطباعاتي عنها ومشاهداتي كتابي المخطوط ” الهند بلاد الأعاجيب “.
3
طالعت لوحة إعلانات السفارة السودانية في الرياض بدءا كما اعتدت للإلمام بالمستجدات والنظر في القصاصات الصحافية المختارة، التي أجد أحيانا بينها بعض مواضيعي، لاسيما ذات الصلة بشؤون المغتربين.
أمام نافذة الإجراءات أعاد الموظف أوراق متقدم أمامي قائلا باحترام:
المعذرة، لا أستطيع النظر في موضوعك نظرا لانفصال الجنوب ثم أجرى لي ما يلزم فوجدت الأخ الجنوب سوداني يقف كسيفا، أسيفا غير بعيد فأقبلت عليه محييا وكان الجنوب قد انسلخ قبله بأيام جراء استفتاء شعبي مشهود عالميا فدعوته لتناول الفطور معي في الكافتيريا فاعتذر شاكرا فقلت له:
لا تحزن أخي فحكومة الجنوب الجديدة سرعان ما ستكلف إحدى السفارات بترتيب أوضاع رعاياها ريثما تفتح لها سفارة هنا، وعليك بالمتابعة مع أهلك في جوبا وخرجت معه للشارع حيث دلف إلى سيارة أجرة أوقفها مقدرا، فتسمرت في مكاني وبي مسحة حزن حتى توارت سيارته عن ناظري.