(1)
صدق المؤرخ السر أحمد قدور عندما قال إن عبد الكريم الكابلي هو صاحب الفضل الأول في إعادة الأغنية السودانية الفصيحة إلى الوجود، بعد كانت قد طُمرت تحت تراب العامية، وأنه عندما صعد الكابلي الى خشبة المسرح في مطلع الستينيات ليغني: (عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمة / ويرفُّ الفجر في قلبي على أجنح غيمة) كان ذلك ايذانا ببداية عهد جديد للغناء في السودان.
مهما يكن فإن ريادة الكابلي واقتداره الفذ، وفتوته الفنية، ومتانة قماشته الثقافية، وتراثه الابداعي الخرافي إنما هي من معلوم حياتنا بالضرورة.
وكنت كلما ذكرت الكابلي قفزت على الفور الى ذهني عبارة لأديب عربي كتب في مورد الثناء على مطرب آخر: (إن صوته يشبه في نقائه سلالة الخيول العربية الأصيلة، وهو يتخطر بصوته وغنائه كاختيال الخيول في أبهة وجلال وفخامة). حفظ الله عبد الكريم الكابلي، وحفظنا جميعا، ومتعنا بأسماعنا، ومتعنا بأبصارنا، ومتعنا بسائر حواسنا، وقسم لنا من خشيته ما يحول بيننا وبين معاصيه، ومن طاعته ما يبلغنا به جنته.
(2)
الكابلي هو الرائد الذي علم من جاء بعده ان الغناء فن وعقل وقلب وثقافة قبل أن يكون صوتاً وحنجرة. علمهم كيف يغنون. علمهم سلامة نطق العربية وكيف تكون مخارج الألفاظ سليمة. وعلمهم قبل ذلك كله كيف أن الغناء مسئولية، وكيف أن الفنان صانع مسئول عن صناعته أمام الناس وأمام الله سبحانه وتعالى.
الكابلي هو من رفع مستوى الغناء في السودان، وكان له السهم الأوفر، عندما غنى القصائد العربية الأصيلة بصوته الآسر الدفاق، في اثبات جمال اللغة وطواعية موسيقاها حتى في أصعب الكلمات لموسيقى الغناء، فكان لصوته فضل غير مجحود في انتشار الشعر العربي على ألسنة العامة والخاصة.
ولذلك كله كان وجود عبد الكريم الكابلي، قيثاره السودان ونسيجه النادر، بيننا شرفٌ نعتز به. وربما بسبب كل ذلك ايضا أجفل بعض “السوادنة” واضطربوا عندما رأوا فوق سطوح الوسائط التواصلية الصور الفوتوغرافية للرجل وزوجته يلوحان بالعلم الأميركي، والأخبار تترى أنهما رفعا أيديهما أمام القاضي الفيدرالي في مدينة ألكساندريا سيتي بولاية فيرجينيا، ورددا أمامه نص قسم الولاء للولايات المتحدة ودستورها، بعد أن حصلا على الجنسية الأميركية.
(3)
الكابلي إنسان على سجيته. ولهذا فإنه لم يجد بأساً عندما انطلق ذات مرة، في اغسطس من العام 2015، أمام منتدى ثقافي في مهجره الأميركي ليقول أنه يفخر بكونه متنوع ومتعدد الأصول، جاء آباؤه من كابول الأفغانية، وأن جده تزوج من أسرة بسيوني ومنطقتها “بسيون” في مصر، وهي المنطقة التي عاشت فيها العائلة الممتدة لسيدنا يعقوب، وأن “بسيون” اسم مستعار ليعقوب، فارتج على كثيرين وجزعوا للتصريح الذي يرد الكابلي لبعض أصول يهودية. ثم وعلى ذات سجيته قال عندما سئل عن آخر عمل فني له خلال اقامته في أميركا انه فرغ مؤخراً من تلحين نصوص استغفارية مسيحية بعنوان (جراح المسيح)، فاهتزت رؤوس يمنة ويسرة، وتقلّبت بعض العيون في المحاجر!
وفي الحالين كان الكابلي يصدر عن صلاة في قلبه خالصة وحبٍّ أصيل لله والانسان والحياة، ورسالة شفيفة جوهرها عظمة القيمة الانسانية وفضائل التعايش واحترام التعددية، وتلك من جملة المبادئ الخيّرة والقيم المثمرة في حيوات الناس الكونية. ولا ضير في ان يرنو الانسان الى البر، وأن يكون صادقاً ومخلصاً وشفيفاً، وداعية الى التعايش والتوادد بين الملل والنحل. وإذا لم يصدر الانسان عن ذاته وينطق بمكنونات قلبه وقد بلغ الثمانين فمتى يكون الصدور؟!
وسيرة الكابلي لمن تتبّعها في السنوات الاخيرة تنبئ بانصرافه الى محاضن روحية رحيبة تتجاوز انتماءات الذات الضيقة وتترامى على مد البصر بغير حدود. انظر – أعزك الله- الى هذه الفقرة من حديث للرجل أدلى به قبل عامين لصحيفة الكترونية سودانية: (لست من أهل التعصب، في مناخي الفكري لا يوجد تعصب، ولكن نحن لدينا قيم إنسانية كبيرة، والانسان السوداني يستحق أن ينال كل خير. واتمنى أن يركن الجميع الى العقل).
(4)
الضجيج الذي يثيره البعض هذه الأيام حول حصول الكابلي على الجنسية الأميركية لا يعدو كونه زوبعة في فنجان. أراد بعض عشاق تسجيل المواقف أن يحيلوا الأمر الى قضية خيانة للإبداع وتخلي عن الوطن الذي منح الكابلي مجده، أو كما قالوا! مع أن الكابلي وأضرابه من المبدعين هم الذين يمنحون الأوطان أمجادها. وفي المقابل تمادى محترفو المعارضة والنضال واجتهدوا في الاستثمار السياسي سعياً لتصفية الخصومات مع النظام، متسترين بالدعاوى “الخزعبلية” المكرورة عن تشريد المبدعين. وكلا الفريقين بلا قضية.
الفنان المبدع مثل غيره من خلق الله من حقه أن يعيش حياته كما يشاء، فهو يغترب بحثاً عن المال واغراض الدنيا كما يفعل غيره، وقد اغترب الكابلي نفسه في بلاد الحرمين من قبل سنين عددا. كما أنه مثل ملايين غيره يبحث عن شيخوخة هادئة آمنة ومستقرة مع أسرته وبين أبنائه. فإذا كان ابناؤه وبناته يعيشون في بلد آخر كالولايات المتحدة فما الذي يحول دون اختيار الانسان في ان يهنأ بسعادة الكبر بين أبنائه وأحفاده؟!
ثم أنه من مزايا الحصول على الجنسية الأميركية أن الدولة هناك توفر لمن هم في سن الشيخوخة رعاية صحية كاملة وشاملة ومجانية، هي أفضل ما يتوفر في العالم من حيث التقدم العلمي في الطب والتكنولوجيا الطبية، فلماذا نريد أن نحرم الرجل من كل هذا تحت شعارات جوفاء بلا محتوى ولا معنى؟!
تحية من القلب إلى هرمنا الأكبر، الفنان المبدع المثقف الحُر عبد الكريم الكابلي.
mustafabatal@msn.com