في ظل الظروف القاسية التي يمر بها السودان من حروب ومآسٍ ودمار، ومع تعقيد المشكلات، والأوضاع التي ألقت بظلالها على جميع جوانب الحياة. وفي هذا الظرف، الذي يعاني فيه الشعب السوداني حالة من القلق المستمر والأمل في إيجاد حل قريب ينهي هذا المأزق. وسط هذه الأوضاع، تفاقمت الفوضى الرقمية بشكل غير مسبوق، وازداد عدد الناشطين بوسائل التواصل الإجتماعي. وأعتقد أن الفوضى الرقمية التي يشهدها المجتمع السوداني اليوم ليست موجودة بنفس الشكل في أي من دول العالم، مما يجعلها ظاهرة تهدد المجتمع السوداني وإستقرار البلاد. هذه الفوضى ساهمت في تعميق الإحباط وزيادة الشعور بفقدان الأمل في مستقبل أفضل، كما أسهمت في تشويه صورة السودان على الصعيدين المحلي والدولي. في هذا العصر، أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة مفتوحة للتعبير عن الآراء والأفكار والمعتقدات. وكان من المفترض أن يكون هذا الفضاء مجالًا للتفاعل الإيجابي، خاصة في ظل الظروف الإستثنائية التي تمر بها البلاد والتي تستدعي البحث عن مخرج. لكن للأسف، تحولت هذه الساحة إلى منصة لإنتشار خطاب الكراهية والإنقسامات الإجتماعية. ومع تزايد عدد الناشطين على منصات التواصل الإجتماعي، زادت حالة الفوضى الرقمية، التي لم تقتصر آثارها على الفضاء الإفتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي فقط، بل إمتدت لتؤثر بشكل مباشر على وحدة وتماسك المجتمع السوداني. أحد أبرز التأثيرات السلبية لهذه الفوضى هو إنتشار خطاب الكراهية، الذي أصبح يتسرب إلى مختلف جوانب الحياة الإجتماعية والأمنية والسياسية. في بعض الحالات، حدث أفعال عنف مرتبطة ببعض الفيديوهات والتسجيلات المنشورة ، في ميادين القتال، الأمر الذي يزيد من التوترات ويشعل الصراعات العرقية والقبلية. إن هذه الفوضى الرقمية قد تساهم في تحفيز المزيد من العنف وتفاقم الإنقسامات العنصرية بين أبناء الوطن، حيث أصبح خطاب الكراهية يُستخدم كأداة لتبادل الإتهامات العرقية والقبلية والجهوية، وتروج بعض الجماعات لمواقف متطرفة تزيد من التفرقة والحقد الإجتماعي. هذه الظاهرة قد تعود أسبابها إلى الإحتقان الإجتماعي والسياسي التي مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة، ولكن أحد الأخطار الكبرى التي تترتب على هذه الفوضى الإلكترونية هو زيادة الإنقسامات الداخلية بين مكونات الشعب السوداني. ففي ظل إنتشار الخطابات المسمومة، تجد العديد من المجموعات العرقية تتبنى مواقف متطرفة تجاه بعضها البعض، مما يؤدي إلى تعميق الفجوة بين المجتمعات، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى التقارب والتفاهم لتجاوز الأزمة الراهنة، حيث تسهم هذه الإنقسامات في تعزيز الإنفصال الوجداني والفكري والإجتماعي، مما يؤدي إلى مزيد من تشرذم المجتمع .
الأمر الأكثر قلقًا هو أن بعض الناشطين في الساحة الرقمية، سواء كانوا في المجال السياسي أو الاجتماعي، يستخدمون هذه الفوضى الرقمية كوسيلة لتحقيق أهداف شخصية أو سياسية. و يتم إستغلال منصات التواصل الإجتماعي لنشر الأكاذيب والتضليل بهدف خلق حالة من الفوضى، وإشعال النعرات الجهوية والقبلية.
لتجاوز هذه الظاهرة ومعالجتها، يحتاج الأمر إلى تعاون الجميع وأن تكون هناك إستراتيجية شاملة على مستوى الحكومة والمجتمع المدني وكافة فئات المجتمع، تشمل حلولًا قانونية وإجتماعية وتعليمية. أولًا، ينبغي على الحكومة سن قوانين وتشريعات رادعة لحظر خطاب الكراهية وتحديد عقوبات قاسية للحد من إنتشاره، ثانيًا، يجب على وسائل الإعلام التقليدية، مثل التلفزيون والإذاعة، أن تلعب دورًا أكبر في تعزيز خطاب الوحدة الوطنية، من خلال نشر القيم المشتركة وتعزيز التسامح الإجتماعي. يمكن لوسائل الإعلام ايضا أن تساهم بشكل كبير في نشر رسائل إيجابية تهدف إلى بناء مجتمع متماسك على أسس الإحترام المتبادل. كذلك، من المهم أن يتم إدخال مواد تعليمية في المدارس والجامعات تتعلق بالأخلاقيات الرقمية، وتوضيح تأثير وسائل التواصل الإجتماعي السلبية على المجتمع، وكيفية التعامل مع المعلومات المضللة والتمييز العنصري. كما يجب أن تكون هذه المواد جزءًا من المناهج الدراسية التي تهدف إلى زيادة الوعي لدى الأجيال القادمة بالمخاطر التي يشكلها خطاب الكراهية، ودور هذه الأجيال في بناء بيئة رقمية صحية. ثالثًا، من المهم، أن يُهتم المجتمع المدني بتفعيل دوره التوعوي من خلال الندوات، وحملات التثقيف الإجتماعي التي تهدف إلى نشر الوعي بمخاطر الفوضى الرقمية وخطاب الكراهية، وإطلاق منصات رقمية مخصصة للمشاركة في بناء خطاب إيجابي يعزز من التسامح والإحترام بين مكونات المجتمع السوداني. كما يمكن التعاون مع الناشطين في بناء منصات حوارية تساهم في توجيه النقاشات نحو أهداف بناء الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين الجميع. وأخيرًا، يمكن تنظيم لقاءات بين مختلف أبناء الولايات في السودان للتفاهم وتجاوز الماضي، والعمل على تحقيق الإندماج الإجتماعي، وفتح منصات حوار مع الشباب المهاجرين حول العالم، والناشطين والمثقفين من مختلف التوجهات السياسية والثقافية بهدف تعزيز التفاعل الإيجابي والمساهمة في بناء مجتمع إلكتروني يتسم بالإحترام والتسامح.
هذه المبادرات يمكن أن تساهم في بناء جسور التفاهم المتبادل، مما يؤدي إلى تعزيز التعايش السلمي بين جميع أبناء السودان لإعادة بناء الدولة.