أحس بالسعادة لأن الله مدّ في أيامي، وعشت حتى رأيت عيالي يكملون تعليمهم الواطي والعالي، ويدخلون الحياة العملية، وقبل أعوام قليلة انتابتني نوبة غباء وسألت عيالي: ما رأيكم فيَّ كأب؟ كانت محاولة مني كي أبدو “ديمقراطيا” يستمع إلى آراء أولاده وبناته فيه! وكنت أتوقع أن يكيلوا لي المدح، ولكن كان أول رد “جماعي” على سؤالي ذاك أن “أعطيهم الأمان”. ولا يطلب الأمان في مثل هذه الأمور إلا شخص “ناوي على شر”!، ولكن رفضي منحهم الحصانة من العقاب إذا قالوا آراءهم بصراحة، كان سيقوم دليلا على أنني ديكتاتوري، وهكذا قلت لهم بابتسامة مفتعلة إنه ليس هناك ما يخشونه مني، وانفتحت الحنفية وقالوا كلاما خلاصته: أنت هسع كويس، لكن لما كنا صغار كنت “فقري”: لا تحب الخروج من البيت، وكلما طلبنا منك أن نذهب إلى مطعم أو كافتيريا، خرجت علينا بألف عذر أكثرها سخافة وركاكة “أنا مرهق”! وكنت ديكتاتوري، خاصة عندما نكون نشاهد برنامجا ما في التلفزيون، فكلما جاء موعد نشرة أخبار تحولت إلى قناة أخرى لتسمع نفس الكلام الذي يسد النفس عن الموت والخراب. وكنت كلما سمعت كلمة دارفور طلبت منا السكوت وكأنك “فور” صاحب “الدار”. وترغمنا على النوم المبكر مثل الدجاج. وكان يضايقك ان يلعب الواحد منا بأزرار الهاتف الجوال، وكنت تحاول أن تفرض علينا ذوقك في الطعام خاصة الأكلات الشعبية السودانية، رغم أنك تتعاطى ثلاثة أنواع من العقاقير الطبية عقب تناولها، وكلما طلب واحد منا أن تشتري له شيئا تعللت بأن الميزانية “بايظة”!
كنت أرجو أن اسمع منهم عن محاسني قبل مماتي، ولكنهم قالوا إنني كتلة متحركة من العيوب والنقائص، فسألت نفسي: هل فيما قالوه ما يدل على أنني أب فاشل أو سيء؟ فكرت، واستنتجت أنني لست فاشلا: لا أحب الصرمحة وأفضل البقاء في البيت؟ هذا – لو يعلم عيالي – مدح، فكم من ولد أو بنت يتمنى أن يلتقي بأبيه في البيت، وقد لا تتحقق أمنيته إلا مرة في الشهر. أكون متسلطا أثناء مشاهدة البرامج التلفزيونية وأتحول إلى قناة إخبارية؟ أكل عيش، وأود هنا أن أسأل عيالي: ماذا كنتم ستظنون بي إذا كنت دائم البصبصة لقنوات الهشك بشك التي تتثنى وتتلوى فيها فتيات وأنصاف رجال، وكأن جيشا من النمل يمشي تحت ملابسهم الشحيحة؟ أهتم بأحداث عجيبة مثل تلك التي في دارفور وكأنني “فور” صاحب ال”دار”؟ تلك ضريبة الانتماء إلى وطن في طريقه إلى التفكك؟ أرغمكم على النوم المبكر؟ سيأتي يوم تشتهون فيه حتى النوم المتأخر فلا تضيعوا فرصة إراحة الجسم والعقل بالنوم! أتضايق عندما أرى أحدكم يعبث بأزرار الهاتف الجوال بغير داع؟ لو كنت أملك السلطة الكافية لسحبت الهواتف الجوالة من جميع الأشخاص الذين صاروا يستخدمونها كبديل للمسبحة! أحب الأكلات السودانية وأفضلها على “أكل السوق”؟ هذه “تهمة” ثابتة، وبارد على قلبي أن تسبب لي الأكلات السودانية عسر الهضم من أن أدخل في جوفي طعاما لا أعرف مصدره ولا كيف تم إعداده! وتقولون إنني كنت أرفض شراء أشياء قد تطلبونها؟ هذا صحيح، فقد تعمدت حرمانكم من بعض الكماليات لأنني أعرف معنى “اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم”، يا من لا تعرفون اللالوب أو الدوم.