دمعة في محراب وطن يتلاشى..!!

دمعة في محراب وطن يتلاشى..!!
  • 02 يناير 2025
  • لا توجد تعليقات

محمود عابدين

مرت أيام الحرب رتيبة، مرة وقاسية، وما عدنا قادرين على تحمل المزيد. عاد عيد الوطن في زمن الأحزان الممتدة، ولكن بأية حال عدت يا عيد. رحل عام الرمادة الوطنية، واصطحب معه خيرة الناس. يرحل القابضون على جمر القضية الذين يدفعون أغلى الأثمان، ويبقى الهتيفة يهتفون للموت من بروجهم المشيدة.
مضى العام مصطحبا” معه إلى الأبد من كل حديقة سودانية زهرة. حصد الموت المصنوع أجمل الشباب، وطرق اليأس كل الأبواب. تغيرت الحياة وتغيرنا معها، ما عدنا نحن نحن وما عاد الوطن هو ذا الوطن. وكما يقول الفيتوري: وأهم من يظن أن الأشياء هي الأشياء.

فات زمن، كنا نتنفس فيه السودان عشقا” نقيا”، ينعشنا أكسجين الوطن، ينداح في دواخلنا عافية بردا” وسلاما. نستنشق غباره بشوق ونشرب من كدر نيله بشغف..نشبع حد التخمة حتى في سنواته العجاف. لم نكن نبالي بالجفاف ولا بالتصحر ولا بمشقة الحياة، لاننا أيقنا أننا خلقنا في كبد وعناء، قمة سعادتنا فيهما.
ومع ذلك ورغم كل المحن، كانت بلادنا أمان وناسها حنان
يكفكفوا دمعة المفجوع
يبدوا الغير علي ذاتهم
يقسموا اللقمة بيناتهم
ويدوا الزاد حتى إن كان مصيرهم جوع

عشنا كل العمر نستمتع حتى بالفوضى الضاربة في أطناب الوطن حد الانتظام…ومع ذلك كان يحدونا الأمل في غد مشرق وجميل. وكنا نقول دوما أن أجمل أيام السودان لم تأت بعد، وأن أجمل أطفالنا لم يولدوا بعد.
عشنا نغني بكل تفاؤل وأمل وشغف ينداح في دواخلنا رغم قساوة المشوار:
إلا باكر يا حليوة
لمـّا أولادنا السمر
يبقوا أفراحنا
البنمسح بيها
أحزان الزمن
نمشى فى كل الدروب
الواسعة ديك
والرواكيب الصغيرة
تبقى أكبر من مدن

كانت الرواكيب أجمل من القصور، وقرانا أجمل من المدن حتى قال آباءنا (حلفا دغيم ولا باريس). وعلى الرغم من الشقاء والإخفاقات والفشل كنا نثق دوما” أننا كشعب ووطن نستحق الأفضل، وأن الأيام ستدور دورتها وتمسح دمعات الحزن من عيون أطفالنا وتكفكف دمعة كل محزون.
في مثل هذا الوقت من كل عام، كان السودان كله يضج بالحياة. فبل أن يصبح الاستقلال استغلالا” والفرح حزنا”. نسميها ليلة رأس السنة التي ظلت تستحوذ على كل أفراح السودان. كان الوطن بازخا” في عطاءه رغم ضيق الحال. وطن أطعمنا وسقانا علمنا ومنحنا قامات تنشر الوعي والحب في كل وادي. عشنا تشدنا الأغاني الوطنية ونغني مع وردي ولا نبالي بمعاناتنا:

اليوم نرفع رأية استقلالنا
ويسطر التاريخ مولد شعبنا
كنا نمارس ترف الفرح مع وردي
وعثمان حسين وود الأمين والكابلي وغيرهم..
نعيد اجترار الكلمات التي صاغها شعراء الوطن وهم يرسمون لنا في الخيال أجمل صورة للوطن. يبعدون عن السودان وشعبه اي ملمح لليأس والقنوت. ظلوا يعزفون لنا دوما قيثارة الأمل. وكم انشدنا معهم:
أحبك بتضحك
أحبك عبوس
فتارة هو الوطن البنحلم بيه يوماتي
وطن حدادي مدادي
وطن عاتي وطن شامخ
وطن خير ديمقراطي
وتارة هو وطن الجدود
نفديه بالأرواح نجود

لن نتراجع قيد أنملة عن أحلامنا العريضة فيه، وإن هرمنا، وإن عجز جيلنا عن الوفاء بوعده. ومهما استبدت بنا الخطوب. سننقل على كل حال، أحلامنا الوردية للأجيال التي لم تأت بعد، ليعبروا لاحقا حاجز الزمن برغم ضراوة التيار ورغم قساوة المحن. اقل ما نتركه لهم هو الأمل بعد أن فرطنا نحن في الوطن ومكنوناته العظيمة وثرواته الضخمة.. وان دفعنا ثمن صمتنا عن كل ما فعله الاشرار الذين استباحوا الوطن مستغلين انسانه الطيب وما تركوا له فيه شيئا.

للمرة الثانية يداهمنا الأول من يناير ويتركنا الوطن حيارى متارجحين بين اليأس والامل، بين العودة إلى الديار أو المتاهة..بين التشرد واستعادة الدفء. كنا قد نسينا ما غناه لنا المغنون في حضرة جلال الوطن محذرين:
حذاري أن وطنك يضام
وحذاري أن يصبح حطام
جهلٌ .. وفقرٌ ..وانقسام
فلنتحد ويجب نعيد
لوطنّا أمجاد الكرام

هذا هو التحدي وهذا هو الامتحان. القاصرون يظنون أن الانتصار بالرصاص، وان القوة بالسلاح، ولكن الانتصار الحقيقي يكون من خلال الوعي الذي من خلاله فقط يمكننا قهر العنف والتسلط
انه عيد استقلال السودان وما يقارب العقود السبعة من الفشل بسبب العسكر وانقلاباتهم وحروبهم وضيق افقهم. ورغم الجراح نقول كل عام وانت معافى يا وطن، كل عام وشعبك بخير وارضك بخير وانسانك بخير.
وهمسة في اذن كل سوداني راحل او حامل لسلاحه في وجه اخيه لا تنسى:

وطن بالعزه رباكا
اهداك جو تعيش فيه
اهداك غيم تطير ليه
وجوه عيونه خلاكا

فسلام عليك يا سودان، وإليك غدا نعود وحتما نعود… أن شاء الله

محمود عابدين
1/1/2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*