حين سقط خبر انتقال (العم) بكري في هاتفي سقط مني الدمع ولا عجب. فمهما تغالب العواطف مستذكراً ما نقلت السيدة عائشة عن لبيد العامري :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
تتساءل ماذا كانت ستقول أم المؤمنين رضي الله عنها، إن عاشت في زمانها ورأت واقعا كواقع سوداننا. واقع على وطأته يرحل عنه الأخيار من أمثال (بكري عديل) فينطبق عليه قول القائل:
(وأفجع من فقدنا من وجدنا قبيل الفقد معدوم المثال).
أو قول القائل:
قد أبكرت يا رجل الرجال وأسرجت المنون بلا سؤال
رحيل شكل نقطة فارقه في حياتنا الشخصية والحياة السياسية السودانية التي تتعرض لتجريف وتأجيج وتسميم منذ حين. رحيل يحجر الدمع في المحاجر وآهاته تئن في الحناجر، رحيل كان فاجعه لكثيرين من الذين كانت العلاقة مع (العم) بالنسبة لهم من انتصارات الحياة ومن إنجازاتها. وهو ما ينطبق على كاتب السطور منذ أن التقيته وأنا في نهاية المرحلة الثانوية حين جاء معزيا في خالي الشيخ المبارك رحمه الله، كان وقتها حاكما لإقليم كردفان. وكان قد خرج لتوه من سجون السفاح نميري ونجا من حكم إعدام طال الشهيد حسن حسين عثمان وبرشم وزملائه في حركة سبتمبر 1975. ومنذ أن التقيت العم بكري وسمته ساكنا بأعماق الروح وظلت تتجدد كلماته في العزاء كذكرى يختلط فيها الحزن بفرح لقائه.
وظللت أستعيد المناسبة كلما سنحت الظروف واقتضى الحال. فالذكريات بالنسبة للعم ولي جزء من حياتنا وما الإنسان إلا ذكريات وصلات وعلاقات تستوي في ذلك الذكريات الأليمة والسعيدة. ولا تستثني التي في مستشفى الأبيض حين كان (العم) سجينا برفقة الحبيب عبد الرسول النور في العام 1983 أو في رحاب بيت الله حين جاء العم بكري مستشفيا ومؤديا عمرة في صيف 1995. أو بعد خروجه من سجن طويل ومرير في عهد الحكم الحالي.
وظل العم بكري مثل الذهب، وظل مثالاً وبطلاً ونموذجاً يحتذى، وخاصة في صبره وتجلده على المشاق. وظل العم أبدا على طبعه البدوي العفوي ابن القرية الكر دفانيه التي بلا شوارع وبلا كهارب وبلا أضواء ولا بلا تكاذب. هكذا لم تغيره الوظيفة ولم تبدله الألقاب فلم يستعلي ولم تغره أم بنايا قش وأكد دائما أنه الشبل إبن ذاك الأسد.
مثلما ظل (العم) نموذجا للسياسي النظيف الذي ينسج العلاقات مع القوى السياسة أيا تكن التوجهات ومهما تتباين المواقف. يقرب وجهات النظر بين القوى السياسية الوطنية ويرفع من صوت المستبعدين. وكان يجذب المختلفين لمواقفه التي لا تقبل قسمه. كان (أبو عادل) عديلا وعدلا يقول الحق ولو على نفسه وكان اَهل السياسة يعتبرونه نموذجاً للسوداني العفيف النظيف، الذي يرى هدفه في الحياة مع مساندة الضعيف. ويرى نفسه يصدق إن كان صوتا لأهل السودان بلا فرز. لهذا ما أن يسمع بمشكلة طلاب العراق حتى يهب مسرعًا يعيدهم للوطن ويعيد لهم كرامتهم. ثم يبحث عن مقاعد دراسة في الجامعات الوطنية وفي الخارج. وهكذا كرس قناعة عامة بأن أي سوداني يجب أن يهمه أمر أي سوداني آخر.
لم يهتم كثيرا لعنصرية (ألوان) التي كانت تعتبر (عديل) مرادف (للسكن العشوائي) أو من يسكنه لا فرق. ففي احدى المؤتمرات الصحفية قال لمن يشنون عليه الحملات، أمامي الجرائد حقتكم ومنها سأقول لكم من أنا وماهي خططي المستقبلية. فابتسم من فهم إشاراته وكدأبه كان بليغاً بدون تكلف ينتقي مفرداته ليحملها بالدرر، وكانت عبارته تنضح بالبيان. لا يسيء ولا يسخر وركز دائما على ما يجمع السودانيين وليس ما يفرقهم. فالكلام الشين يحسنه كل إنسان والكلام الحسن يفرز المواقف.
وعلى الرغم من اهتمامه بالسياسة السودانية المحلية، لكنه لم يغفل تأسيس علاقات عربية وعالمية أفادت السودان وعززت من دور التعليم العالي. فقد فتح الباب لعلاقات أكاديمية مع ليبيا وسوريا والكويت كما عزز العلاقات مع السعودية والمغرب فضلاً عن مصر وبريطانيا. كان يرى في التعليم مخرجا للسودان والسودانيين وأنه أنجع وسيله للتخلص من الفقر والانتقال إلى آفاق الرفاه. وأفضل أداة لانتشال الريف من التخلف والتردي إلى فضاءات التنمية والنمو.
قبيل رحيله بأشهر، زرته وأصدقاء، كان متماسكاً في وجه آلامه ومليئاً بالأمل كعادته وقوياً لا تهزه الرياح العواصف. تكلم عن تحذيرات طبيبه وكعادته أسند الأمر كله لله. وعندما تطرق الحديث للسياسة كان حاضراً فيها ومتابعا لها، وتبدى لي أن فهمه للعسكر لا يقل عن فهمه للسياسة والسياسيين مما منحه بعد نظر ينقص كثيرين. يؤكد ذلك عندما استنتج أحدنا بأن أمراض (العم) وعلله كانت ناتج سياسة ومن آثار سجون الشموليات الانقلابية، كان رده عبرة لمن يعتبر. قال لابد أن يتعلم الإنسان كيف ينسى ولابد أن يتعلم كيف يتعالى على ما يحدث. ولله دره.
تلك سطور من سيرة عطرة ودموع وذكريات مع (العم) بكري ترد من شرفة الأحزان لتقول ليس صحيحا أن (أمس والعصر الحجري سيان) فالأمس سيظل حاضرا ولن ننسى (العم) ما بقينا وما بقيت أبو زبد، ولسان الحال يقول يا راحلاً عنا وفينا باق، ستظل في القلوب ما بقي الليل والنهار وما بقيت المواقف، التي ستلهم الأجيال الصمود والثبات والسير في الدرب العديل، الذي نحته الراحل المقيم.