الواحدة صباحا صحوت بألم في بطني فعاجلته بنعناع دافئ وحبة مسكن فلم يسكت.
الرابعة أيقظت صديق الأسرة الحميم إبراهيم قناوي.
الخامسة كنت ممددا على سريري في غرفة الطوارئ.
بعيد بعض المراجعات الحثيثة سرت في جسدي محاليل غير أنها لم تجد هذه المرة فنصبوا جهاز أشعة عملاقا على سريري والتقطوا صورا متعددة.
أخيرا توصلوا إلى أن السبب يعود إلى حصوة المرارة الكبيرة، التي تحركت وسدت العصارة الهضمية الصفراء، التي سببت لي غثيانا وقيئا متصلا.
هنا رأوا الحل في التدخل الجرحي ” المنظاري” فتلكأت فقال لي الحبيب إبراهيم:
إن رفضت هنا فأين ستجريها إذن؟
تتابع توقف الفريق الطبي عندي، آخرهم الجراح الظريف الذي قابلته قبلا فجلس لصقي يشرح لي العملية برسم توضيحي مشجعا فقلت:
مادمت ستجريها لي موافق فأصدر تعليماته فورا:
جهزوا غرفة العملية! فجيء لي بثوب العملية الفضفاض المشجر الشبيه بجلباب الأنصار .. القلبة كالعدلة! وتسلم إبراهيم متعلقاتي.
واصطرعت في دواخلي أمواج صاخبة:
.. هل هي أنفاسي الأخيرة أم أعيش مثل د. محيي الدين صابر بعد رثائه نفسه 30 عاما؟
.. أليس مقدرا أن أكحل عيني بمشهد مسقط رأسي، الذي يمرق مسرعا طيف بيوته وناسه وزروعه وضروعه؟
الثالثة والنصف عصرا
يقطع استرسالي دفع سريري قدما فأبتهل:
إلهي هبني العافية فلا ملجأ لي سواك!
في صالة غرفة العملية فريق طبي يسأل:
اسمك، حيكم؟ فأحاول وأتلعثم وأتعثر وانحدر لسبات عميق.
أفتح عيني وأجول ببصري فإذا عقارب ساعة جدارية تتعانق عند السابعة مساء في جناح فاخر يليق بشهر عسل ماتع .. ال مافي شنو؟! فيدخل أحبابي من كانوا بالخارج مهنئين فيسري الفرح أوصالي.
بعد ساعتين تتصل شابة مليحة عبر دائرة زووم التلفزيونية في محادثة استقصائية عن كل ما يتصل بصحتي واعتلالي مثل صلتي بالتدخين والخمر والعمليات السابقة والأمراض المزمنة .. بغية بناء قاعدة بيانات تعينهم على المتابعة لاحقا شأن كل النزلاء .. تصوروا!
طوال الليل ظلت السسترات في متابعة دقيقة .. الحرارة، النبض، مستوى الضغط، السكري ..
22 ديسمبر 6 صباحا
يتصل بي أخي د. محمد عوض محمدين من الدمام جزعا على اختفائي فأفيده بإجرائي عملية جرحية عاجلة فيبث الخبر في القروبات بمشاركة أخي بيومي عبدون محمدين ابن الضفتين وعون عزيزي د. أبوذر وصديقي صديق نصر فيتدفق التفاعل وأعقبه بمقال توضيحي في القروبات وصفحتي أشواط العمر في فيس وفي الصحافة الإلكترونية.
ابتدر د. خضر محمد علي وكان أول المتصلين وحين تصفحت المواقع أسعدتني كثافة التفاعل ما أزال عني تجاهل قلة كنت أعشم فيهم! بحسبانه ترمومترا و” بروفة ” ليوم الردى والارتقاء من الدنيا الدنية للدار العلية.
من وين أجيب العذر لعزيز لم يؤثر فيه ثقب بطني و” فقع ” مرارتي؟!
دعونا نرتقي بعض المعالي والمعاني:
.. د. أبوذر رغم مراجعاته الطبية يظل يطمئن على وضعي كرة بعد كرة.
.. الباشمهندس عبد الواحد عز الدين رغم وجع رحيل شقيقته الشابة يتصل ليطمئن مرارا.
.. نادر الشيخ يعود من رحلته الطويلة عطبرة، بورتسودان، دبي، سياتل ويدخل عفشه البيت ويأتيني بملابس السفر!
ماذا أقول؟ ما أقزم كلماتي إزاء الشواهق؟!
ومما هزني أن بعض الأعزة تأثروا وتواصلوا دون سابق معرفة شخصية بصحبة القلم والإنسانية فاستحقوا الثناء الجزيل.
الثالثة عصرا
يطل الجراح الظريف ويراجع ويفضل خروجي لبراح التمشي في البيت، منوها بضرورة تجنب الدهنيات ورفع الثقال.
بعد ساعة يأتيني تقرير مفصل بصورة لطبيب الأسرة مع الأدوية اللازمة في فترة النقاهة وعندما أهم بالخروج تمازح السستر:
ما تقضوا الليلة معنا؟
فأقول:
لا تكفي، نمدها أسبوعا فيضج الضحك!
ما أرق ملائكة الرحمة وأرقاهن، روح التفاني الطبي.
يأتي من يدفع بي على عربة يد للمصعد فالشارع ويأبى الانصراف حتى أدخل سيارتنا شاكرا فأعرف في الطريق أنه متطوع .. عظمة!
بعد ساعة في البيت يصل أبنائي من مريلاند مقر جامعة جون هوبكنز الشهيرة، التي
أسست 1876 وشقيقتها واشنطن دي سي العاصمة فيا للقاء، ويا للهناء!
أما الصغير إسماعيل فانصرف فور السلام ينشر حيويته الممراحة وإنجليزيته الطليقة، ومنذ لحظتها ظلت تزدهي دارنا بزوارنا الكرام، يتقدمهم العزيز مجذوب طلحة محافظ الخرطوم المعروف في الزمن الرضي، ابن ناظر عموم قبيلة البطاحين العريضة بالسودان، كما شرفنا الصديقان الجزائريان اللطيفان علي وخالد.
الحين تواصل صهرنا خادم الضفتين العزيز سامر إسماعيل كما درج وسبقه الوجيه عبدون سابنتود.
جيء البيت بخروف أملح أقرن ” كرامة ” فتولى الأحباب المشمر والمحمر والمجمر فيما تنحيت جانبا أصيب قليلا من طعام سادة بلا دسامة وتوابل، ماسخ أنهيه بدعوتي المعتادة عقب كل وجبة ” اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال “.
6 يناير 2025
قبل ساعتين
سعدت بمراجعة طبيبي الجراح د. أفري الودود، الذي لا تملك إلا أن تحبه فأطلق سراحي من كل قيد بجانب متابعة الصديق البروف سيف نوري مشكورا وهي سانحة ثمينة أرفع فيها امتناني لدعوات ركائز العائلة الممتدة الماجدات: فاطمة حاج، نعيمة صالح حسين، وفاطمة محمد شريف أرباب مثالا وزغاريد أخواتي بعد نواح والتياع ولكل الأصفياء والنواضر، الذين كاتبوني بكثافة في العام والخاص من كوبنهاجن شمالا إلى العاصمة التنزانية دار السلام جنوبا، ومن حواف المكسيك في آخر الدنيا غربا إلى قلب طوكيو في الشرق القصي فأنتم رصيدي، وأسمى أوسمتي فالشكران لكم والعرفان، فالصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وعاما أطل فياضا بالمسرات أرجوه لكم
ولي.
أنور محمدين