الأربعاء - 9 رجب 1446 هـ , 08 يناير 2025 م

واشنطن تفرض عقوبات على “حميدتي”

ثلاثة عناوين حول جدل حكومة المنفى أو الأمر الواقع الجديدة

ثلاثة عناوين حول جدل حكومة المنفى أو الأمر الواقع الجديدة
محمد فاروق سليمان

جدل الشرعية: عقم المصطلح وغياب المصلحة

الحكومة والحكم ضرورة وممارسة، من نفسها وبنفسها، لا تخرج بقرار أبدًا ولا تسندها صفة الشرعية أو يدحضها وصف التمرد. وحتى في ظل غياب الحكومة الاعتبارية يوجد حكم، ليس بالضرورة نظام حكم سياسي وقانوني، لكن يمكن أن يكون انحلال قانوني كما هو الأمر في مناطق سيطرة الدعم السريع، أو انحلال سياسي كما هو الحال في مناطق سيطرة الجيش. وهنا ليس القصد التفريق كيفًا أو كمًا (وإن وجد) بين الواقعين وفق حالة الحرب الوطنية (وليست الأهلية) في السودان، ولكن المقصود الإشارة بوضوح إلى وجود حكومة في مناطق سيطرة الجيش، ونظام محكوم بأداء وظائف الحكم، ومن خلال عدة سلطات وفي أوجه متعددة (مثلًا: الجدل الحالي حول إقامة الامتحانات، وتعليق السودان لمشاركته في النظام العالمي لرصد ومراقبة الجوع)، بما في ذلك وجه التمثيل القانوني لسيادة الدولة خارجيًا، حتى لو فقدت “الشرعية” سياسيًا عند البعض داخليًا.

أيضًا الإشارة إلى وجود حكم في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع (ولو كان حكم قراقوش)، وإن غاب عنه وجود سلطات مختصة، وبالتالي غياب النظام، لأداء وظائف الحكم خلاف سلطة “قائد الارتكاز”، التي قد تخضع أو لا تخضع لسلسلة الأوامر المركزية للقيادة العسكرية للدعم السريع، مع تمثيل سياسي بدون صفة قانونية، وفق قاعدة تحالفاته في الإقليم ودوليًا، حتى لو اكتسب “شرعية” سياسية عند البعض داخليًا، مع استثناء قانوني طبعًا عند تمثيله في أي تفاهمات أو اتفاقيات لإنهاء المعاناة الإنسانية المترتبة على الحرب، أو مفاوضات لإنهائها وإقرار السلام.

تناول الشرعية والتمرد نفسه يظل جدلًا عقيمًا حول مصطلحات بالية. فقد ارتبطت “شرعية” الحكم بالأنظمة الملكية والحق الإلهي والحق بالدم في الموناركية، كما يستمد مصطلح “تمرد” صفته في مقابل قيمة هذه الشرعية. وأصبح من المهم هنا النظر إلى مشروعية ممارسة كليهما، فقد يفتقد النظام الشرعي سياسيًا وقانونًا مشروعية بقائه عند فشله في الحكم أو قصوره عن تحقيق العدل والمساواة بين المحكومين، وقد يستمد هنا التمرد مشروعيته أخلاقيًا في مواجهة هذا الفشل، بما يترتب عليه من مشروعية سياسية وقانونية.

كما استدل المدافع الأميركي عن الحقوق المدنية أبي هوفمان بمقولة الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن في المحاكمة الأشهر ضد الحرب الأميركية في فيتنام (Chicago 7): “في عام 1861، قال لينكولن في خطاب تنصيبه: عندما يتعب الناس من حقهم الدستوري في تعديل حكومتهم، فسوف يمارسون حقهم الثوري في تفكيك تلك الحكومة والإطاحة بها”. مطالبًا بمحاكمة لينكولن على هذه المقولة!

وبالنظر إلى شرعية كثير من الممارسات والقوانين حتى في التاريخ، كممارسة الرق، وقانون الفصل العنصري لنظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، والشرعية التي وجدتها العقيدة الكولونيالية عند “البيض” لعقود، “أخلاقيًا”، تحت مسمى الاستعمار بمدلوله اللغوي في ربط الإعمار بالتمدين ونشر الحضارة الغربية والتبشير بها (وهي ذات الدعاوى “الأخلاقية” لاحقًا عند الأنظمة الشمولية العقائدية الدينية واليسارية أو القومية يسارها ويمينها). لتفتقد هذه “الشرعية” مشروعيتها وفق التقدم البشري والإنساني في مواجهة شرعية القوانين (Legality) كتعبير عن القوة (Power)، مقابل مشروعية هذه القوانين كتعبير عن العدالة.

بينما تظل مشروعية أي “تمرد” مقابلة عسف السلطة، تفتقد السلطة “الشرعية” مشروعيتها بمجرد ممارسة هذا “العسف”. بالتالي لن يكون مبررًا بأي حال من الأحوال ربط كثير من المآلات بالتغيير الثوري كصفة لازمة فيه كونه تمردًا على النظام. ولن تصلح هذه الحجج في مداراة فشل النظام وعسف استمراره، ولعل مغالطة ضرورة التغيير وفق الشرط التاريخي كصيرورة، بحسب فشل الدولة (Failure of State)، هو ما يقود إلى المآلات المظلمة من انحلال سياسي (Decay) وانهيار الدولة (Fall of State; Collapse)، وفق هذه المغالطة وحدها لحركة التاريخ.

وبالنظر إلى نموذج الثورة السودانية، التهديد الأكبر الذي طال مفهوم “الدولة باقية” هو هذه الحرب، التي تأتي في مقابل سلمية الثورة السودانية، ومن خلال قدرة البنيات والهياكل التي شيدها النظام السابق لحماية بقائه. فالدعم السريع في النهاية من مخلفات نظام الإنقاذ ودعائمه، وقد يكون حكمه هو التطور الطبيعي والنتيجة الحتمية للتجريف الذي تم لأجهزة الدولة بمفهومها الحديث ومؤسساتها طوال ثلاثين عامًا، وليس في القطاع الأمني والعسكري وحده.

وبالنظر إلى أبعاد هذه الظاهرة لنمو الدعم السريع وتطوره، ووفق تقاطعات مع ظواهر أخرى، يمكننا الإشارة إلى تنامي مهددات وجود الدولة اجتماعيًا أولًا، والضعف السياسي، والانحلال الاقتصادي، ونهج إدارة الثروات وضعف التنمية، وانهيار التعليم وكثير من الخدمات. والأهم، التهديد المستمر لنظام حكم القانون ونظم الحوكمة والمحاسبة، وتهديد استقلال الإرادة الوطنية عبر الابتذال المضطرد لهذه الإرادة والاستقلال طوال سنوات حكم الإنقاذ، من خلال التدخل في تهديد الأنظمة من حولنا، ورعاية الإرهاب في العالم كما في بداياتها، أو الرضوخ للأنظمة والدول في نهاية الأمر. ومهما بدا من تضاد في ظاهر هذين النهجين، إلا أن جوهرهما واحد، وبنفس الكلفة في تهديد الاستقلال الوطني وابتذال الإرادة الوطنية.

لمصلحة من/ماذا يتم خلط الأوراق؟

بالنظر إلى نماذج كثيرة معاصرة من حولنا، بنية المقاومة، أو حتى من هم في معسكر الثورة، لا تحكم انهيار الدولة. بالكثير قد تفشل “قوى” الثورة في التغيير، والتحول من الاحتجاج إلى البناء، أو من الثورة إلى الدولة. فهي بنية غير رسمية بعد، وأكثر ما يمكن أن يفعله من هم في معسكرها، وفق تطاول آماد الاستبداد، وتراجع (ضمور) الوعي (العقل) الديمقراطي داخل النخب، وظهور (نمو) نمط]ن للوعي (العقل) السياسي قد يحكم الفعل السياسي بالانتهازية أو التعصب(1)، ليكون جل ما تفعله هذه النخبة إما الانتقال لمعسكر النظام (جبن الانتهازي)، أو انتقال ثقافة النظام إليها وتبنيها (وحشية المتعصب). في حالة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، وبحكم ديناميكية العقل الانتهازي لمعسكر الثورة – أو حتى بموجب التخلف عنه، يتم الاندراج في السلطة والنظام بمشاركة “زائفة”، والأمثلة عديدة هنا لأفراد ومنظومات، وفي فترات مختلفة طوال ثلاثين عامًا من عمر النظام. تحت دعاوى استحالة التغيير كفاحًا، والرهان على التغيير من الداخل “سفاحًا” – بينما يحكم “تقدم” نفس العقل في حال عدم تخلفه عن معسكر الثورة وتزييف كامل الانتقال، بل ومقايضة التغيير والثورة بالصعود في مقاعد السلطة وفق بنية النظام وهياكله القائمة، وتسويق إعادة إنتاج النظام عبر التحالف مع أطرافه الأقدر على الاستمرار (قيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية مثلًا)، دون تغيير حقيقي أو حتى سلطة حقيقية، بخلاف القدرة الفائقة على التبرير “بالكلام”، كما نرى عند هذين النموذجين للعقل الانتهازي في معسكر الثورة.

بينما يعطل “الجمود” تقدم المتعصبين، أو تقديم خيار وحيد لاستبداد الثورة إذا تقدموا – كما سنعرض عليه لاحقًا – لم تقدر عليه بعد، بالتالي هنا لن يحكم انهيار الدولة حتى “مسامرات” الطبقة المتعصبة، والمتسمرة في رصيف المتاريس، والأقدر على الكلام، وليس الفعل، حول التغيير الجذري والبناء القاعدي، والذي يتم تصويره باعتباره نظامًا بديلًا أقدر على العزل والإقصاء ومن القواعد للقواعد! بدلًا عن تنظيم هذه القواعد وتوسيع قاعدة مشاركتها بطبيعة تشارك مصالح مباشرة على هذا المستوى بين الجميع، في المقابلات الحدية لهذا العقل المتعصب في وجه العقل الانتهازي، دون مسعى للعمل الخلّاق في مواجهة الاستبداد، خلاف امتلاك عدد من الكروت الحمراء، ومطلق الحقيقة. ولو قُدر لها الخروج من إتكاءة الموقف النظري، من على رصيفها هذا في منافي العالم الأول، أو من تحت ظل سقوف الفكرة الأنبل، والذي يبدو في ظاهره أقرب إلى “الأناركية”، فهي الأقدر على إعادة إنتاج النظام القديم، كما أسلفت، وهي في حالة انتظار تهافت السلطة والاستغناء عنها، وأقدر من النظام القديم على نفخ الحياة في شمولية بذات وحشية النظام القائم إذا لم تتفوق عليه(2). وبينما حكم “قصر النظر” على أداء العقل الانتهازي في معسكر الثورة بالفشل، يحكم “انسداده” تمامًا عند العقل الآخر (المتعصب) على فعله بالعجز. ليظل الأقدر على نفخ الحياة في شمولية النظام القديم، أطراف هذا النظام نفسها، من خلف هذه الحرب بدرجة من الدرجات. وبعيدًا عن تصويرها معركة بين الكرامة والديمقراطية (!)، ليس الأسوأ هو استمرارها، بقدر ما يمكن أن يكمن إنهاؤها بالتقائهم (وآخرين) مرة أخرى، بدل إنهائها من خلال التقاء الكرامة والديمقراطية!

بعيدًا عن تبرئة الثورة من مآلات فشل الدولة وشبح انهيارها، سواء بطبيعة بنية المقاومة أو طبيعة بعض القوى في معسكرها، وبعيدًا أيضًا عن تثبيت الإدانة بحق النظام الذي أسقطته هذه الثورة، بطبيعة بنية الدولة التي أقامها، أو طبيعة كل قواه المتنفذة بعدُ في هذه البنية، إلا أنه لا يمكننا بعد تناول التخلق الجديد للقوى المدنية والرسمية التي تتشكل من خلال واقع الحرب، ومن خلف القصور في أداء كلا معسكري الثورة والنظام، والتي تحاول أن تمد أسباب الحياة في أكثر من مشهد ومن قبل أكثر المواطنين والمواطنات تعرضًا للمخاطر في داخل السودان أو خارجه حتى. لكن الأهم أنه لا يمكن تناول أدوار كثيرين، هم الأكثر عرضة للمخاطر الآن في خطوط المواجهة بالداخل. ولا يقتصر هذا الدور فقط على أفراد ومجموعات من المدنيين الناشطات والناشطين والمنتجين الذين يواصلون نشاطهم والمهنيين في المجال الصحي وغيره ممن يقومون بأداء خدمات حيوية الآن، وبعض قيادات المجتمع ورموزه الدينية فقط، ولكنه يشمل أيضًا أبطال الواجب من جنود وضباط القوات المسلحة والقوات المشتركة، ويتجاوزهم للمستنفرين معهم دون أجندة خلاف رد العدوان والبغي، بعيدًا عن إعادة تدوير خطب الجهاد أو استدعاء النعرات العنصرية. كما يمتد لأفراد داخل قوات الدعم السريع، قد يكون لمواقفهم الفردية (أو كمجموعات) دور في تخفيف معاناة هذه الحرب التي قد يكون وجودهم فيها خلف طموح قيادة هذه القوات في السلطة، لأسباب لا يد لهم فيها. وقد لا تخلو منطقة من أفراد وقفوا مواقف كان لها الفصل في مد أسباب للحياة (رغمًا عن طبيعة الحرب هذه)، وليست على طريقة “أبو عاقلة كيكل” بالضرورة.

ولعل الأفضل لو أن الدعوة لتشكيل حكومة أو إدارة مدنية في مناطق سيطرة الدعم السريع كان دافعها مواجهة الخروقات المطردة لهذه القوات للقانون الإنساني، والانتهاكات المستمرة من سلب ونهب وقتل. وقد يكون من المبرر لو أن أي قوى مدنية قد ناقشت مع هذه القوات وقيادتها ضرورة إنشاء سلطة قضائية وإدارة مدنية لمواجهة تفلتات أفرادها، والقصور في تلبية احتياجات المدنيين، وتقليل آثار الحرب على مجمل الوضع الإنساني والحياتي للناس! لكنها دعوة اتُخذت، وحسب تصريحات أصحابها، لمنافسة حكومة “الجيش” ومنازعتها في “شرعيتها”، وليس لمواجهة انتهاكات الدعم السريع وتصحيح مسارها وإعادة توجيه هذا المسار، وإخضاع هذه القوات للمحاسبة بالقدر الذي يفي بالاضطلاع بواجبات الحكم، حتى في ظل غياب الحكومة!

مفهوم الإدارة المدنية أو السلطة المدنية وفق تجربة الحروب الأهلية في السودان قد امتد بعمر هذه الحروب، ولم يكن أبدًا لمنافسة السلطة في الخرطوم أو المركز في شرعية سلطتها وإعفاء هذه السلطة من واجباتها، بقدر قيام حركات الكفاح المسلح بالقدر الممكن بواجبات الحكم ومهامه. وخلافًا لما يحدث الآن، وبطبيعة هذه الحروب كحروب عصابات (Guerrilla War)، كان يتم تقليل هذا القدر من المسؤولية بضبط توسع انتشارها؛ فمثلًا لم تكن الحركة الشعبية لتحرير السودان تسعى لتحرير المدن، وظلت تستهدف المناطق العسكرية وفق حرب استنزاف كان القصد منها إضعاف قوات الجيش، وبالتالي تعزيز موقفها السياسي عبر التفاوض، أو الوصول عبر الاستنزاف المستمر إلى حالة يمكن أن يكون انهيار النظام السياسي وفقها واردًا. وعملية دخول المدن هي عملية نهائية وخاطفة لإعلان هذا الانهيار، على نحو ما عُرف بسيناريو “شرق إفريقيا” للتغيير، وبصورة مقاربة لما تم في سوريا مؤخرًا، مما رآه البعض انهيارًا مفاجئًا للنظام، لا يبدو كذلك بالنظر إلى التغيرات على مستوى الإقليم (الدور الخارجي هنا يتعاظم وفق تأثيرات الجيوبوليتيك وخارطة تحالفات كلا نظامي الحكم والمعارضة الإقليمية والدولية).

بينما بدأت حرب الدعم السريع بشكل معكوس عن هذه الحروب الأهلية والكفاح المسلح، من المدن والعاصمة بشكل أكثر تركيزًا، وبشكل أشبه بالانقلاب، لا الثورة المسلحة، والتي يبدو أن الجيش يخوض ثورة مسلحة ضدها أكثر من كونها عملية لإنفاذ حكم القانون! وفقًا لطبيعة هذه القوات كجزء من “المكون العسكري” للدولة، تحولت عند فشلها إلى تمرد شامل بقدرات أتاحها نمو قوات الدعم السريع في الدولة وانتشارها في مراكزها والمواقع الحيوية، بدرجة لا يمكن أن تتاح لحركة تحرر وطني. ومنهج إدارة الفرص في الحرب وقيمها لا يمكن ربطها بالتحرير، وعَلَّه مقابل الظن عند كثير من ضباط الجيش أن “الحرب مع الدعم السريع ستكون سريعة”، كان يقينًا عند الدعم السريع أن “إخضاع الدولة سيكون عملية خاطفة”. لهذا لم يشغل الدعم السريع نفسه أبدًا بالترتيبات التي تُطرح الآن، حتى إنه لم ينتبه في البداية إلى أن الحديث عن حكومة منفى قد يضعها – أي الحكومة – في موقف واحد منه كما الجيش، وهو ما يتم تداركه بالحديث عن حكومة مدنية تنازع فقط حكومة (بورتسودان) شرعيتها، وقد توفر غطاءً أكثر إحكامًا لشرعية حربه عليها من دعوات إيقاف الحرب لدعاة الحياد.

لمصلحة من/ماذا يتم خلط الأوراق؟

يقف الدالاي لاما كأشهر الآلهة بلا فردوس، والزعماء بلا دولة، منذ احتلال الصين للتبت، وهو النموذج الأوضح لفرص حكومة المنفى عبر رسالة السلام في عالمنا المعاصر. وبالنظر إلى إعلان الدولة الفلسطينية في العام 1988 من العاصمة الجزائرية بواسطة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، لم يكن الإعلان أكثر من انتصار لعدالة القضية الفلسطينية، تُرجِم في مخاطبة عرفات للجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1988، أي بعد شهر من إعلان دولة فلسطين في الجزائر، بمناسبة انعقاد الدورة الخاصة للجمعية العامة لمناقشة القضية الفلسطينية، والتي عقدت بشكل استثنائي في جنيف بعد أن رفضت الولايات المتحدة منح عرفات تأشيرة الدخول لأراضيها، ضاربة باتفاقية المقر عرض الحائط. وقد تشكلت لاحقًا بعد عام من توقيع اتفاقية أوسلو في 1993 السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة الضفة الغربية وقطاع غزة. وبغض النظر عن مآلات ذلك، بوصفه نتاجًا للنزاع الفلسطيني الداخلي والتنصل الإسرائيلي الدائم من استحقاقات السلام للإبقاء على وضع الاحتلال، لا يمكن الحديث عن قضية في السودان ببعد وعدالة القضيتين أعلاه، واللتان لم تنجحا إلى الآن كحجة لإقامة السلام وفق استحقاقات العدالة وإنهاء الاحتلال بموجب مواثيق الأمم المتحدة وحق الشعوب الأصيل في تقرير مصيرها(3).

وفي منحى آخر، يمكننا النظر إلى المقابلة بين الصين الوطنية (تايوان) والصين الشعبية (الصين). فمنذ الحرب الأهلية في الصين بين العامين 1927 و1937، التي توقفت أمام الاحتلال الياباني للصين إبان الحرب العالمية الثانية، وعادت فور انتهائها في العام 1946، لينتهي القتال في العام 1950 بعد انسحاب جيش الصين الوطني أمام جيش جمهورية الصين الموالي للحزب الشيوعي إلى جزيرة تايوان. طوال 22 عامًا ظل الاعتراف بالصين الشعبية مثار جدل قانوني وسياسي، فقد مثلت تايوان (بدعم من الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة) الصين في الأمم المتحدة، ليحسم قرار الجمعية العامة رقم 2785 في عام 1971، تمثيل جمهورية الصين الشعبية للسيادة الصينية، واحتفاظها بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن ضمن الأعضاء الخمسة الدائمين وحق النقض (الفيتو) فيه. وهو ما تتخذه الصين حجة لإعلان تبعية تايوان لأراضيها، بينما ما تزال تايوان ترفض الاعتراف بالصين! ويظل وجود دولتين هو الأمر الواقع الذي تتعايش معه كلاهما، حتى ولو لم يُقر رسميًا بقبوله، والإبقاء على مناوشات بينهما دون حرب في ظل الدعم الذي تجده تايوان من الولايات المتحدة وعدد من دول الباسفيك التي لا تقيم حتى علاقات دبلوماسية مع الصين.

ومن الجهل عند المطالبة بحكومة منفى أو حكومة موازية، ربط هذا المطلب بالدعوة للسلام ورفض الحرب، فالنزر اليسير من الفهم يتيح الوعي بكون الدعوات لحكومة المنفى هي بالأصل دعوات للحرب وقبول بها، منذ حكومة فرنسا الحرة برئاسة شارل ديغول في مقابل حكومة فيشيه، ومثيلاتها من دول أوروبا التي اجتاحها الرايخ الرابع واحتلتها ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية.

اتخذ وجود تايوان أهميته من أيام الحرب الباردة، وقد زاد من هذه الأهمية بعد انتهائها، التنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين. فأميركا تحتفظ بكلفة أدنى لإنتاج متطور للتكنولوجيا في تايوان، بينما تقيم نفس أميركا ودول أخرى في الصين مصانع لأشهر شركاتها لإنتاج السيارات والمعدات الثقيلة، لتحقيق نفس الكلفة المتدنية للإنتاج والتصنيع في الصين، والهروب من الكلفة البيئية للصناعة والآثار المدمرة للاحتباس الحراري وانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وقوانين العمل ومعدل الأجور داخل هذه الدول العظمى في الغرب، مقارنة، طبعًا، بالصين، والتي حتى الآن تتمتع بوجود غطاء نباتي كثيف يمكن أن يغطي حصتها العالمية من انبعاث الغازات (دون اعتبار هذا شرطًا بالطبع، وفق عدم التزام الجميع حتى الآن بقوانين للمناخ)، تشاركها في ذلك البرازيل. وهو نمط ملاحظ في صناعة النمور الآسيوية.

بعيدًا عن هكذا عوالم، وبذات الفرص، يرزح السودان تحت براثن من الفشل وعقود من الاضطراب، دون الانطلاق والنهوض، يحكمه الجهل وتعيقه الحماقة. ومن المفارقة أنه في السودان قد تراجع حزام السافانا المطري أمام التوسع في الزراعة الآلية منذ سبعينات القرن الماضي، في مناطق مثل القضارف، وجنوب النيل الأبيض والأزرق، وجنوب كردفان، وإزالة ملايين الأفدنة من الغابات، بأضعاف القطع الجائر للغابات في النشاط التقليدي لأغراض الطاقة والبناء (بخلاف، طبعًا، الإنتاج التجاري بأحجام كبيرة دون قيود)، دون تخطيط ودراسات بيئية لأثر الانتقال من نمط الزراعة التقليدية بهذا التوسع. وخلاف أثر هذا على المجتمعات المحلية ونشاطها الاقتصادي، والإحلال لها، والتغيير الديمغرافي الذي صاحب هذه المشاريع على المدى القريب، إلا أنه على المدى البعيد قد أثر التغيير المناخي (الجفاف والتصحر) على القبائل الرعوية بدرجة أكبر، واعتُبر واحدًا من أسباب تطور النزاع المسلح بين المجتمعات الزراعية والرعوية، وهجران الريف في أكبر ظاهرة لترييف المدن (الانتقال بدون تخطيط تنموي للمدن)، بدلًا عن تمدين الريف (نقل الخدمات وتشييد بنى تحتية في الريف). وقد ساهم هذا في تجنيد أعداد كبيرة من الرعاة في الحروب الأهلية(4).

يعطي السودانيون على مستوى النخب معاني كبيرة وعناوين أكبر لمحتوى تافه من خلف صراعهم السياسي والاجتماعي حول السلطة والحكم، وسط عالم ينمو باضطراد وتزدهر حياة شعوبه، وفق تحديات أقل مما نواجهه، لتحقيق تقدم بلدانهم. بينما يقتل السودانيون بعضهم لتركيع بلادهم، وتفكيك دولتهم في الصراع على مواردها الخام من ثروات الغذاء والمعادن، التي يتم إنتاجها بنظام أشبه بنظام “القنانة”، وفق عوائد الإنتاج، ومضاعفة أرباحها عند البيع عبر وكلاء شكلوا مركز السلطة والثروة، دون أدنى طموح لتطوير نموذج لحكم القانون ودولة عادلة، وإقامة صناعة وتنمية بشكل يتيح للسودان وفق موارده الانبثاق من واقع مزرٍ بين العالم. ليتواصل ازدراؤنا لأنفسنا من خلف إساءة الحروب إلينا، أو من أمام إساءة البعض للسلام، والاستغراق في طلب الحكم قبل استحقاق الدولة.

يجب الوعي بأن سياق السودان لديه خصوصيته المستقلة (وهذه ليست ميزة يتفرد بها عن غيره عند إطلاق المقاربات)، وتجربته الخاصة والمنفردة، تحديدًا عند استدعاء سيناريو ليبيا (أو حتى غيرها، إذا أردنا المقاربة في سياق آخر). فوفق طبيعة الدعم السريع، حدود الأفق الذي يتيحه للحكم أو الإدارة المدنية هو ما يحدث الآن. وبالنظر للنموذج الليبي، فالنظامان، حكومة “حفتر” وحكومة المجلس الوطني، بينهما تفاهمات حول اقتسام عوائد النفط مقابل استمرار تشغيله، والنفوذ للبنك المركزي. ويبقى الصراع بينهما على النفوذ السياسي في السلطة دون مرحلة الاشتباك بشكله الواسع هنا. وهو سيناريو يمكن مقارنته بدرجة أقرب لواقع حميدتي نفسه داخل الدولة لفترة طويلة قبل الحرب الوطنية الحالية (ومن هنا تتخذ صفة الحرب الوطنية لا الأهلية)، وربما قبل الثورة بحيز زمني أطول من عمر الانتقال “المغدور”. وهو الأقرب (والموروث أيضًا في السياق السوداني) إلى الوضع في الفترة الانتقالية عقب نيفاشا (2005-2010)، ووفق تفاهمات أوسع في ظل وجود جيشين ونظامين. كان من الواضح أن التعبير الأفصح في وصف الواقع، والملزم، هو دولتان بنظام واحد، بدلًا عن دولة واحدة ونظامين (One State, Two Systems) كما وردت في الاتفاقية، هذا قاد لحالة مستمرة من الانقسام (بوجود دولة داخل الدولة) داخل الدولتين (السودان وجنوب السودان)، لاحقًا قادت لحربين (وطنيتين) في كلتيهما، مع مفارقة أن الانقسام في جنوب السودان داخل حركة “التحرير”، وفي السودان داخل نظام “الاستبداد”. بالتالي، ووفق تطاول الأزمة في السودان، قد نكون مقبلين على أشواط تتجاوز أي من السيناريوهات حولنا، يجب التحذير منها هي، وليس العكس. وبحكم تجربتنا، لم يعد استدعاء شبح الدولتين كحل ممكنًا، وإن ظل يتم ترديده كتهديد من قبل القوى المدنية التي تندب فشل الانتقال السياسي الثاني في السودان منذ وصول الإسلاميين للسلطة. يعرف الجميع أنه كخيار لن يكون وسيلة لإنهاء الحرب، ولكن طريقة لتكاثرها عبر انقسام “أميبي” للأزمة، وبشكل كارثي، كما تم في جنوب السودان في حرب 2013، ويتم الآن في السودان الشمالي في هذه الحرب.

فعليًا، قد تضاعفت مؤشرات المهددات للأمن القومي وتضعضع الدولة داخليًا وخارجيًا إثر الانفصال في الدولتين (الحالة التي وصفها د. منصور خالد بتكاثر الزعازع وتناقض الأوتاد في 2010)(5)، كما لم يتم استدامة السلام في أي منهما، وهو ما ينذر بمزيد من التهديد للتعايش والسلم، وتأكيد هشاشة الدولة عبر مواصلة “تقطيعها”. ولا أحسب حكومة المنفى كمقدمة للتقسيم، دون توقع عدم حدوثه (في السودان يمكن أن يتكرر ذات الفشل)، ولكنها تعزيز لهشاشة الحلول القادمة، بذات القدر الذي تكون فيه حكومة أمر واقع أخرى تغليبًا لخيار الحرب واستمرارها، عكس ما تحاول أن تقوله مجموعات مدنية وسياسية عن موقفها الرافض للحرب. كما لا يمكن تناول شرعية الحكم قبل إيقاف الحرب، إلا في إطار إعطاء الحرب نفسها مشروعية، لا السلام.

هوامش:

يمكن الرجوع إلى مقال لأمير بابكر عبد الله (رئيس حزب التحالف الوطني السابق وكاتب وأديب سوداني)، تحت عنوان: “العقل السياسي.. الطريق إلى العقل الديمقراطي”، الذي يتناول بإسهاب العقل السياسي “الجبان” والعقل السياسي “المتوحش”، وهما نتاج الاستبداد، وإن اختلفا شكلًا ومضمونًا. لا بد من التخلص منهما للانطلاق نحو بلورة المشروع الديمقراطي.
بشكل أشبه بنظام أوليفر كروميل، عندما أعلن إنجلترا جمهورية إثر الحرب الأهلية في إنجلترا (1639-1653) بين البرلمانيين (كومنولث إنجلترا) والملكيين (الفرسان). أُعدم الملك تشارلز الأول في 1649، وحكم كروميل بصفته اللورد الحامي منذ أيول/سبتمبر 1653 وحتى وفاته في كانون الأول/ديسمبر 1658، وجعل ابنه وريثًا له في الحكم في الجمهورية، وفق نفس تقاليد النظام الملكي الذي ثار عليه، حتى عودة الملكية في 1660، ليُعدم كروميل بعد وفاته في مطلع العام 1661. وقد يكون الأقرب إلى ذلك، ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1917 وسقوط القيصر في روسيا، وانتصار الجيش الأحمر وإقامة الستار الحديدي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية لاحقًا إثر الحرب العالمية الثانية.
إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 (د-15) المؤرخ في 14 كانون الأول/ديسمبر 1960. وكذلك قرار السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية، قرار الجمعية العامة رقم 1803 (د-17) المؤرخ في 14 كانون الأول/ديسمبر 1962. “حق تقرير المصير: لجميع الشعوب، الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولا يجوز أبداً أن يُتخذ نقص الاستعداد في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التعليمي ذريعة لتأخير الاستقلال.
“نقل المدنية للريف، بدلًا من نقل الريف للمدينة”، كمقولة صاحبت نضال الهامش ضد المركز في خطاب السودان الجديد، الذي لم يُعنَ باحتلال المدن على نحو ما يتم الآن.
“تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد”، عنوان كتاب للدكتور منصور خالد حول قضايا التغيير السياسي ومشكلات الحرب والسلام في السودان.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
دخول سجل اسمك المستعار
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور