هكذا سكنت السوق العربي

هكذا سكنت السوق العربي
  • 27 يناير 2025
  • لا توجد تعليقات

أنور محمدين

كان ذلك أواسط الثمانينيات حين رشحت من قبل وزارة التربية للدراسة بجامعة الخرطوم.
بعد تدبر وتفكر سكنت في فندق الجزيرة في شارع الطيار جميل المتفرع من شارع السيد عبد الرحمن ما يتيح لي الذهاب للجامعة والعودة منها راجلا، على أن أمتع نفسي بمسرة قضاء الجمعة وسط أهلي في المثلث الذهبي النوبي الكلاكلة- أمبدة- الحاج يوسف.
الطيار الحربي محمد الجميل الطيب عبد القادر استشهد في توريت في حادث تصادم طائرتين وكان في أول فوج في سلاح الجو السوداني فسمي به شارعنا المسفلت، الذي يكاد يغمره التراب، وأحار:
لم لا تبنى شوارعنا مرتفعة قليلا؟
كان الفندق يعود للوجيهين آدم عثمان وعلاء الدين سعيد ويديره باقتدار العزيز محمد عبد الله همت، الذي كان مقصدا للمغتربين وملتقى للمقيمين والعابرين ما أضفى عليه حيوية متجددة.
كان بالفندق نشطاء من حركة تحرير إريتريا يمدونا بمطبوعاتهم ويمارسون نشاطهم بحرية، بل كانوا ينتقدون بعض سياسات حكومتنا، وأحيانا بقسوة فلا نتحفظ بحسبانهم إخوتنا وضيوفنا وكانت الخرطوم ملاذهم ومنطلقهم وبذا لم أفاجأ بمعاملة إريتريا الراقية للسودانيين الذين قصدوها في ظروف الحرب فهم يعون دور السودان تجاههم بل حيال كل حركات تحرير القارة بحسبانه الدولة الأولى، التي استقلت جنوب الصحراء من الجزائر حتى جنوب إفريقيا، والدنيا تارات.
كان يشاركني غرفتي زميل من أصول تركية يدير متوسطة بنهرين بحكمة وحيلة وحنكة. حكى لي مرة والخرطوم تشهد اضطرابات كيف أحبط محاولة طالبات ثانوية ضم طلابهم في مظاهرة بأسلوب:
أنتم أبنائي رجال عقلاء فكيف تسيرون خلف بنات وتحت قيادتهن؟ متوعدا المخالفين فقلت له: أنت إداري خطير يا صاحبي فسر لتقريظي، وكان من عادته ألا يعود إلا ليلا ” زول نوم “، ما أتاح لي فرصة استقبال الأحباب براحتي.
في طليعة من سعدت بهم العزيز محمد طه عباس عمدة العمد بالمحس، الذي كنت أحييه في سوق دلقو باحترام، حيث كان يحتدم تنافس الدومينو بينه وبين عمنا إبراهيم علي. وفي قيلوتنا بالفندق وجدته ينبوعا من الطيبة والتواضع واللطف فعاتبت نفسي على عدم الاقتراب منه قبلا وأضمرت زيارته في بيته بالبلد وتدوين سيرته الذاتية وذكرياته ونشرها غير أن المنية عاجلته بعدئذ بأيام في الخرطوم فصدمت وكنت في قلب الحشد الذي شيعه وواراه في الثرى.
أسبغ الله عليه نعماءه
.. الشخصية الأخرى صديقي الحميم اللواء أركانحرب محمد علي الحاج، الذي كان يأتيني مساء كل خميس خلال دراستي بمركز التنمية شندي بسيارة جيب عسكرية فنذهب لبيته في القيادة ويعيدني مساء الجمعة لذا فرحت جدا بحضوره للفندق حيث قضينا نهارا جميلا.
الحين أحكي له التفاصيل فيقول:
أنت ذاكرتك قوية، أنا نسيت!
فأمازحه:
يا صاحبي أنا غديتك بكسرة رهيفة، طرية بملاح بامية مفروكة شهي، مدعوم بسلطة خضراء أعقبه شاي سادة منعنع
دة بيتنسي؟
فيضحك في صفاء بطيبته اللامتناهية.
من لم يعاشر الحبيب محمد علي فاته حظ عظيم!
أختم بالنزلاء الكثر، الذين عاشرتهم منهم شاب كاميروني قضى بيننا فترة وكان مشدوها بمشهد تدفق آلاف الطلبة والطالبات صباح مساء للمدارس والجامعات بالخرطوم وكانت وجهته باريس، التي تمنى العيش وسط شقراواتها على ضفاف نهر السين كما أفضى لي لكن التأشيرة عاندته وساءت أحواله المادية فطلب عوني فذهبت به إلى الزملاء في وزارة التربية وشرحت وضعه فعينوه معلما للغة الفرنسية بثانويات دارفور حتى يكون قريبا من بلاده وزودوه بتذكرة. وكان وداعه مؤثرا وهو يحضنني بحرارة ولسانه يلهج بجزيل الشكر قبل انطلاقه للمطار مسرعا ولايزال ذلك الموقف في خاطري يرفرف.
ترى أين هو الآن؟!

الوسوم أنور-محمدين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*