البصل والشرك ودكاي الخواجة

لنتوقف هذه المرة معا في المحطات التالية متأملين:
1
كان عمنا العزيز محمد محمود عبد الله في أشكان قرب كرمة بشأن علاج والدته عند حكيم شعبي معروف حينما دهمته نوبة ألم حادة تجاه بطنه جعله يتأوه فاستفسره الحكيم عما به فشرح علته فشخصها فورا:
هذه أعراض حصوة. وعرض العلاج وكيفيته.
فور عودته نفذ تعليمات الحكيم، بجمع قشور كمية من البصل الخارجية الرهيفة الجافة الحمراء وغليها مع تحريكها ثم غطاها وتركها ساعة وصفاها ووضعها في زجاجة كبيرة أودعها في بطن زير بغرض التبريد ( قبل شيوع الثلاجات ).
الصباح التالي وفق إرشاد الحكيم عكف على الشرب منها عوضا عن الماء متحملا طعمها ورائحتها طوال النهار.
ساعة الغروب أحس بحاجته لإفراغ بول متدافع فأسرع خارجا للحمام ولكن اندفاع البول جعله يطلقه في الحوش ” المليس ” فتناثرت مع البول حبيبات في حجم حبات الذرة فالتقطها واحتفظ بها ثم أحس بالراحة واختفاء الألم.
كان العزيز محمد محمود مهيأ أصلا للسفر لمصر للعلاج، التي وصلها بالفعل.
عند استشاري شهير أجرى الفحوص المعملية والأشعة نتيجة شكواه الأصلية.
بعد المراجعة والكشف السريري قال له الطبيب:
كانت لديك حصوة أزيلت، لكن كيف? فحكى له ما جرى فقال الطبيب المرجعي:
أنت لم تستفد منا.
نحن الذين استفدنا من تجربتك وأعاد له رسوم العيادة، فمضى مطمئنا، مسرورا.
حقا صدق من قالوا:
اسأل المجرب ولا تنس الطبيب!
هذا يطرح ضرورة الوفاء بواجبنا الملح حيال تتبع الطب الشعبي وتدوينه وتوثيقه بصورة واسعة منظمة قبل اختفاء من تبقى من ممارسيه ومتابعيه من كثب، بل تطويره والانتفاع به شأن الأمم الواعية .. الصين مثالا.
2
كان والدي ذا روح شبابية، يجالسهم ساعات الصفاء ويمازحهم فيتحلقون حوله منشرحين.
بعث لي مرة خطابا وأنا بعطبرة يطلب كمية من شراك الطيور قال إنه يريد بها تحقيق عائد، فضلا عن إشغال الأولاد خلال عطلة المدارس الطويلة بهواية الصيد بدل الاتجاه لأخطار العوم وتسلق النخيل وركوب الحمير ونحوها.
ولأن طلب والدي سيدي أمر بالطبع جلست فورا مع حداد أعرفه في سوق عطبرة الكبير واتفقنا على تجهيز 100 شرك، نصفها صغيرة الحجم للصبية الصغار فطلب إمهاله أسبوعا.
في الموعد تسلمتها بعد مراجعة متانتها ومشدوديتها فربط كل 10 في حزمة ووضعناها في جوال داخل جوال أوسع قليلا وأحكمنا وثاقها ورفعنا الجوال على دراجتي فربطه بجنزير مضاعف.
قدت دراجتي راجلا حتى لا يختل توازني فأتعثر عند اعتلائها.
عند مخرج السوق أمام مكتبة دبورة الشهيرة صادفني زميل ظريف فاستفسر عما أحمل ففصلت له الحكاية والرواية فضرب كفا بكف وهو يضحك عاليا قائلا:
يا أستاذ هذه تجارة عجيبة مربحة لم يسبقك عليها أحد.
وكانت حقا كذلك بدليل تكرار والدي طلبه العام التالي!
3
اتسم معلم اللغة الإنجليزية، الإنجليزي الجنسية المتطوع بدلقو بالروح الاجتماعية، التي جعلته سرعان ما يتغلغل في المجتمع ويغوص بود في كل الأوساط، بل صار محبوبا لدى بعض آبنائنا المزارعين حتى إنهم كانوا يدعونه لمشاركتهم في مجالس الدكاي المعهودة زمنئذ، التي تسودها الونسة النادية في الليالي المترعة بالهدوء والوداعة.
لاحظ الخواجة أن المعتاد أن من يخرج لغرض ثم يعود للجلسة بعد حين يدفعون له بكأسين تعويضا فتعمد أن يغيب عنهم نحو ساعة ويعود لكنهم لم يتنبهوا فاحتج على عدم ” تدبيل” الكأس له ففعلوا قائلين:
الخواجة دة ما حيريحنا! فشاركهم الضحكات.
وفي إحدى الجلسات أتوا له بجلابية لبسها وعمة لفها كيفما اتفق وكان أسرعهم قهقهة!
وهكذا تجذرت محبتهم له.
ولعله كان مدفوعا بهدف دراسة المجتمع والكتابة عنه لنيل شهادة علمية أو التوثيق فحكام السودان البريطانيون لأن كثيرين منهم كانوا خريجي العلوم الاجتماعية كتبوا عن السودان ومجتمعاته في مجلة ” السودان في رسائل ومدونات ” الدورية ما يرقى لأن يصنف ثروة قومية .. تقارير مفتش وادي حلفا أنموذجا. وسيجدها المهتمون في معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية بجامعة الخرطوم، وربما دار الوثائق.
بعد أن قضى الخواجة الودود فترة طويلة جميلة في البلد أزف موعد رحيله فحزن لفراقهم واقترح اصطحاب من يرغب منهم معه لبريطانيا ليرى بلاده بالمثل لكن لم يتحمس أحد، على نسق:
حلفا دغيم ولا باريس!
تخيل لو جرؤ أحدهم وسافر إلى لندن!
4
لمسة لغوية
الفارق
إشاعة: خبر صحيح يتعرض للتضخيم والتهويل ” تفشى وعم القرى والحضر”.
شائعة: خبر مختلق بسوء قصد، لا أساس له، يتناقله الناس دون تثبت ثم تسطع شمس الحقيقة!
سادتي
بالمحبة نلتقي
ونرتقي