تمر الحركة الإسلامية السودانية بمرحلة من التراجع الحاد، انعكست بوضوح في مؤتمرها الأخير الذي عُقد في تركيا. لم يكن هذا المؤتمر مجرد لقاء تنظيمي، بل كشف عن حالة من الانكماش والتحول نحو الطابع العائلي، حيث ضم الحضور أفرادًا من أسر القيادات، ما يعكس تقلص التنظيم إلى دائرة ضيقة من المصالح المشتركة. لم تعد الحركة الإسلامية كما كانت من قبل، بل باتت تجمعًا لقياديين تلاحقهم تهم الفساد، فروا إلى الخارج، وعلى رأسه تركيا، بعد سقوط نظامهم في السودان.
جاء انعقاد المؤتمر، الذي أحيط بسرية كاملة ووسط أجواء من التوجس والترقب، حيث بات واضحًا أن الحركة الإسلامية لم تعد تمتلك القدرة على إدارة نفسها ككيان سياسي قوي، بل أصبحت أقرب إلى شبكة من المصالح العائلية والأمنية. حضور المؤتمر لم يكن بحجم التوقعات، إذ بلغ العدد الإجمالي 412 مشاركًا، بينهم 122 امرأة، في إشارة إلى أن التنظيم لم يعد مقتصرًا على القياديين الفاعلين فقط، بل بات يضم عائلاتهم أيضًا. كما حضر 30 طالبًا، وهو عدد ضئيل مقارنة بما كان عليه التنظيم في الماضي، عندما كان الطلاب يمثلون قاعدة تجنيدية كبيرة للحركة الإسلامية في السودان.
حالة الانكماش هذه لم تكن مجرد تحول هيكلي، بل جاءت نتيجة طبيعية لفقدان الحركة الإسلامية سيطرتها على السلطة، واضطرار العديد من قياداتها إلى الفرار خارج السودان. معظم الذين اجتمعوا في المؤتمر هم من الأثرياء الذين نهبوا ثروات البلاد خلال فترة حكمهم، ما جعلهم غير قادرين على العودة إلى السودان، خشية الملاحقة القانونية. أصبح التنظيم اليوم مكونًا من رجال أعمال، وقادة أمنيين سابقين، وعائلاتهم، دون وجود تيارات فكرية أو سياسية قادرة على صياغة رؤية جديدة لمستقبل الحركة.
ولم يكن المؤتمر مجرد فرصة للتجمع، بل شهد حالة من الصراع الحاد بين مختلف الأجنحة داخل التنظيم. أحد أبرز الخلافات كان حول العلاقة مع الجيش السوداني، حيث انقسم المشاركون إلى فريقين؛ الأول يرى أن التحالف مع الجيش ضروري لاستعادة النفوذ، بينما يعتبر الفريق الآخر أن الجيش، بقيادة عبدالفتاح البرهان، هو العدو الرئيسي. عبدالحي يوسف، أحد أبرز القيادات الإسلامية، شنّ هجومًا قاسيًا على البرهان، متهمًا إياه بأنه بلا دين وغير قادر على القضاء على الإسلاميين. هذه التصريحات تعكس عمق الأزمة داخل الحركة الإسلامية، حيث لم تعد هناك رؤية موحدة حول كيفية التعامل مع الواقع السياسي في السودان.
الصراع الأبرز داخل المؤتمر كان حول منصب الأمين العام للحركة الإسلامية، حيث تنافس عليه الجنرال محمد عطا وأحمد الشايقي. محمد عطا، المدير الأسبق لجهاز الأمن والمخابرات، يمثل الجناح الأمني داخل الحركة، وهو المنافس التقليدي لصلاح قوش. أما أحمد الشايقي، فيمثل التيار المالي داخل التنظيم، ويمتلك نفوذًا اقتصاديًا واسعًا، بفضل ارتباطه بعلي كرتي، أحد أبرز قيادات الحركة الإسلامية.
اختيار محمد عطا لهذا المنصب يعكس انتصار الجناح الأمني، المدعوم من أحمد هارون، الذي يسعى لإضعاف تيار إبراهيم محمود. لم يمر هذا القرار بسلاسة، إذ شهد المؤتمر اعتراضات من أنصار أحمد الشايقي، الذين رأوا أن الحركة بحاجة إلى قيادة ذات خبرة سياسية واقتصادية، وليس إلى شخصية أمنية بحتة. يعكس هذا الجدل مدى التغير الذي طرأ على الحركة الإسلامية، حيث لم تعد تعتمد على المثقفين والمفكرين، بل أصبحت تُدار من قبل أجهزة أمنية ورجال أعمال.
تعيين محمد عطا على رأس الحركة الإسلامية يضعها في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، خاصة أن الولايات المتحدة صنفته ضمن قوائم العقوبات، كونه مسؤولًا عن سياسات تهدد الأمن والاستقرار في السودان. هذا الاختيار يعيد سيناريو تعيين أحمد هارون وعلي كرتي، اللذين يواجهان عقوبات دولية أيضًا. إصرار الحركة الإسلامية على تقديم شخصيات ذات خلفيات أمنية يعكس فشلًا في إعادة بناء نفسها ككيان سياسي، حيث أصبح التنظيم أقرب إلى شبكة من المصالح المتنافسة، وليس إلى حركة ذات مشروع فكري متماسك.
بدلًا من مراجعة تجربتها السياسية واستخلاص العبر من سقوطها، يبدو أن الحركة الإسلامية اختارت الهروب إلى الأمام، عبر تقديم نفس الوجوه القديمة، التي تحمل إرثًا من الفشل والفساد
الحركة الإسلامية تعيش اليوم حالة من التآكل الداخلي، حيث لم يعد يربط بين أجنحتها سوى المعركة ضد خصومها. لكن هذه الوحدة الهشة مرشحة للانفجار في أي لحظة، خاصة مع تعدد الكتائب المسلحة التي تنتمي إلى الحركة، ولكنها تحمل خلافات عميقة فيما بينها. عندما تنتهي المعركة الحالية سيجد الإسلاميون أنفسهم في مواجهة مع بعضهم البعض، ما قد يؤدي إلى انشقاقات حادة وصدامات داخلية عنيفة.
الحركة الإسلامية التي كانت تسيطر على مفاصل الدولة السودانية لثلاثة عقود، لم تعد تمتلك سوى رموز متنافسة، كل منها يسعى للحفاظ على نفوذه ومصالحه. لم يعد هناك مشروع سياسي واضح، بل تحولت الحركة إلى صراع بين رجال المال والأمنيين، في ظل غياب كامل للمثقفين والمفكرين الذين كانوا يشكلون واجهتها في الماضي.
المشهد العام للحركة الإسلامية السودانية اليوم يوحي بأنها تسير نحو الانتحار السياسي. فشلها في إعادة تنظيم نفسها كقوة سياسية، واعتمادها على القيادات الأمنية بدلًا من الشخصيات السياسية، يجعلانها أكثر عزلة، سواء داخل السودان أو على المستوى الدولي. استمرار هذا النهج لن يؤدي إلا إلى المزيد من التصدع والانهيار، وقد يكون بداية النهاية لتنظيم لم يعد قادرًا على التكيف مع المتغيرات السياسية الجديدة في السودان.
وبدلًا من مراجعة تجربتها السياسية واستخلاص العبر من سقوطها، يبدو أن الحركة الإسلامية اختارت الهروب إلى الأمام، عبر تقديم نفس الوجوه القديمة، التي تحمل إرثًا من الفشل والفساد. لكن هذا الخيار لن يمكّنها من استعادة قوتها، بل سيؤدي إلى المزيد من العزلة والصراعات الداخلية، التي قد تنتهي بتفكك التنظيم بشكل كامل.
الحركة الإسلامية، التي كانت يومًا ما لاعبًا رئيسيًا في السياسة السودانية، أصبحت اليوم مجرد تجمع يقتات على الماضي، دون أي رؤية للمستقبل. الانقسامات الحادة داخلها، والخلافات بين أجنحتها، تؤكد أن مصيرها بات معلقًا بين التلاشي والانفجار الداخلي. إن المؤتمر الذي عُقد في تركيا قد يكون بمثابة إعلان غير مباشر لنهاية حقبة الإسلاميين في السودان، وبدء مرحلة جديدة لا مكان لهم فيها.
المصدر: صحيفة العرب اللندنية